اليوم، هناك أربعة أقطاب من شيعة العراق لا يسرّهم نفوذ إيران الكاسح في بلدهم. وأغلب الظنّ أنّهم، وبغضّ النظر عمّا يقولون، لا يمانعون في نفوذ آخر يوازن النفوذ الإيرانيّ، متيحاً للوطنيّة العراقيّة أرضاً أوسع للمناورة.
حيدر العبادي، كرئيس حكومة، يعرف أنّ الدولة التي يقف على رأسها ستبقى بلا رأس في ظلّ هذا التضخّم الإيرانيّ. السيّد علي السيستاني، المرجع الشيعيّ الأعلى والأوّل، يعرف أنّ عمائم قم ستبقى قيداً على عمامته. السيّدان مقتدى الصدر وعمّار الحكيم، ممثّلا العائلتين الأوثق صلة بـ «الشيعيّة العربيّة» في العراق، يعرفان أنّ قدرة الشيعيّة الإيرانيّة على القضم أقوى من أن يعيقها اعتداد العشائر الشيعيّة العربيّة بأصلها وفصلها.
هؤلاء الأربعة يعبّرون عن ذلك، كلّ بطريقته. حيدر العبادي قد ينشئ «تكتّلاً انتخابيّاً جديداً»، وقد يؤسّس حزباً جديداً يسمّيه «الحرّيّة وإعادة البناء» ينشقّ به عن «حزب الدعوة» الذي تقيم زعامته الفعليّة في يد نوري المالكي. والأخير، كما نعلم، مُعتَمد إيران الأوّل في بغداد والرقيب المباشر على العبادي. السيستاني يحتجب وينكفئ في الملمّات إلى خطوط دفاعه الخلفيّة: إلى الصلاة والتضرّع، وربّما إلى تمنّيات لا يُهمَس بها إلى أقرب المقرّبين. الصدر يزور الرياض للمرّة الأولى منذ عقد ونيّف. عمّار الحكيم هو آخر الأخبار: ينشقّ عن حزبه وحزب أهله «المجلس الإسلاميّ الأعلى» أو يشقّ حزب أهله عنه. يؤسّس «تيّار الحكمة الوطنيّ». يتذرّع بـ «صراع الأجيال» الذي يفصل الشبّان عن جيل مؤسّسي «المجلس» من ذوي الهوى الإيرانيّ، والذين أسّسوه، مع عمّ عمّار، في طهران. يستذكر، على الأرجح، أنّ الإيرانيّين سبق لهم أن شقّوا «منظّمة بدر» عن آل الحكيم ومجلسهم.
الأربعة يعرفون، كلٌّ بطريقته، أنّ إيران سبق لها أن أدمتهم واحداً واحداً، كما يعرفون أنّ القواعد الشيعيّة العريضة صارت، بخليط من ترغيب وترهيب، ومن إفساد وتوظيف وسلاح وإيديولوجيا، تقبل من طهران ما لم تكن تقبله في السابق، وقد ترفض منهم ما لم تكن ترفضه في السابق. لكنّ أهمّ ما يعرفونه أنّ حكّام إيران… يقتلون. يفعلون هذا، كمثل أيّ نظام إيديولوجيّ وتوسّعيّ، بلا رحمة وبلا تردّد. وأن واحداً من أهداف «الحرب المقدّسة» التي تخاض في الشمال السنّيّ تأبيد هذه القدرة الإيرانيّة على القتل وعلى التحكّم.
أمّا من أراد إجراء حساب صارم، فلن تفوته مسؤوليّة الأقطاب الأربعة، ولو بتفاوت، عمّا وصلت إليه الأحوال. آخر تعابير تلك المسؤوليّة أنّ العبادي حسم الجدال المتعلّق بمشاركة «الحشد الشعبيّ» في معركة تلّعفر المرتقبة. لقد قرّر، بعد طول تمعّن، تأييد المشاركة.
لكنْ من دون التقليل من أهميّة التطوّرات الجديدة، ومن خطورتها، فإنّ قائمة طويلة من المهمّات تنتظر القادة الأربعة كي ينجزوا ما يتوقون إلى إنجازه: درجة أعلى في بلورة فكرة المعارضة ولغتها تواكبها درجة أعلى من التقارب والتنسيق بين الأربعة أنفسهم. ديمومة وتماسك في المواقف التي تُتّخذ بحيث لا تنقلب، بفعل المزاج، إلى شيء آخر في اليوم التالي. فرز ما هو ممكن اليوم عمّا لا بدّ من تأجيله إلى الغد. مدّ جسور أقوى وأوضح إلى شركاء الوطنيّة العراقيّة، أي السنّة العرب والأكراد…
والحال أنّ الهجمة الإيرانيّة الراهنة على المنطقة ليست بسيطة، وهي في بغداد تكلّل انتصاراتها، وفي بغداد تبدأ هزيمتها. وليس متاحاً للعراقيّين، والشيعة العرب منهم خصوصاً، أن يتمتّعوا بكماليّات الجمع بين تلك الهجمة وبقاء العراق: فإمّا توسّع إيرانيّ يوالي قضم العراق، وقضم المنطقة انطلاقاً منه، وإمّا عراق سيّد خارج النفوذ الإيرانيّ. وسيادة العراق هي، بالتعريف والضرورة، تداعٍ في نفوذ إيران. المسألة إمّا وإمّا.
لقد كان من نتائج ذاك النفوذ أنّ مفهوم المقاومة بات لا يعني للشيعة العراقيّين إلاّ «ثورة العشرين» ضدّ الإنكليز! أغلب الظنّ أنّ هناك معاني أخرى للمفهوم أشدّ راهنيّة وإلحاحاً بكثير.