السلوك الإسرائيلي في المسجد الأقصى وجريمة الرابية يعكس بالتأكيد الإدراك بالفراغ السياسي والإقليمي في الشرق العربي والتقديرات والأفكار الدائرة لما بعد هذا الفراغ، هل ترشح إسرائيل نفسها لدور إقليمي في منطقة تشهد حالة فراغ سياسي وانهيار أمني وإقليمي؟ ما الرسالة التي يعكسها استقبال بنيامين نتنياهو رئيس الوزراء الإسرائيلي لقاتل شخصين أعزلين في شقته أحدهما مالك الشقة، استقبالا احتفاليا، وكأنه بطل، ويصحب ذلك إغراق إعلامي مليء بالاستعلاء والشعور بالقوة والتجاهل لدول الجوار بما فيها التي تقيم مع إسرائيل علاقات دبلوماسية؟ لكن لقائل أن يردّ إن المنتصر أو القوي لا يسلك باستفزاز، بل يسعى إلى استيعاب الشركاء والأطراف التي يعمل معها، ويفترض أن إسرائيل إذا كانت تخطط أو تفكر في دور إقليمي إلى جانب تركيا وإيران أو في مواجهتهما أو تخطط لإنشاء مصالح اقتصادية وسياسية جديدة في الإقليم أن تقدم سياسات ومبادرات استيعابية مقبولة أو غير عدائية.
هناك ثلاث حقائق أساسية على الأقل تصلح لمقاربة وتفسير السلوك السياسي الإسرائيلي، الفراغ السياسي والإقليمي والعربي في الشرق العربي وتحول الإقليم إلى ساحة خالية من التأثير أو الفعل أو الحضور السياسي؛ ما يجعل التحرك الإسرائيلي ممكنا بسهولة، والتقدم الاقتصادي والتقني والتنموي في إسرائيل ما يجعلها قوة اقتصادية وتقنية قادرة على ملء الفراغ والحاجات الاقتصادية والتقنية في دول الشرق وبخاصة في الماء والطاقة والزراعة والأنظمة والتقنيات الشبكية والمحوسبة والبرمجيات، والابتعاد الكبير عن المنطقة إلى ما يشبه الانسحاب منها منذ عودة ليكود إلى الحكم مرة أخرى في أوائل الألفية الثالثة، والتحول إلى قلعة بالمعنى الفيزيائي الذي أضفاه الجدار العازل على إسرائيل، ما يشي بعدم الرغبة في الاشتباك الإقليمي بل وتجاهله باستعلاء وعجرفة، وقد يكون السلوك الإسرائيلي في الأقصى وفي إدارة جريمة الرابية يعكس هذه العزلة الاستعلائية أكثر من الاتجاه إلى المشاركة والتأثير الإقليمي!
لكن المشهد العربي يتغير كثيرا ويتحول إلى حالة مختلفة اختلافا كبيرا عن المعطيات الواقعية التي أثرت في الاتجاهات الإسرائيلية الاقليمية والاستراتيجية منذ العام 2001 عندما انتخب ارئيل شارون رئيسا للوزراء في إسرائيل، ودخل حزب العمل في حقبة انحسار مديدة، إذ أن الربيع العربي وما أعقبه من أحداث وتحولات يجعل الشرق العربي ساحة مغرية ومغوية للتأثير السياسي والتوسع والاستثمار الاقتصادي، وربما لم يتغير بعد المزاج النفسي الإسرائيلي المشحون بالنأي المتعجرف عن المنطقة وإن تغيرت الخطط والمشروعات السياسية والاستراتيجية.
لكن الأكثر أهمية من التفكير في السياسات والاستراتيجيات الإسرائيلية الإقليمية القادمة هو التساؤل عن أفكارنا في الأردن وتصوراتنا لمرحلة قادمة مختلفة اختلافا كبيرا لدرجة أنها تبدو منقطعة عنها، والحال أنه لا يبدو (وأرجو أن أكون مخطئا) فكر وجدل وطني مستقبلي لنعرف إلى أين نمضي، بل ولنجيب عن أسئلة وجودية كبرى؛ ممّ وممن نخاف اليوم؟ وربما نحتاج أن نستمع إلى أغنية فيروز وكأنها بيان سياسي،.. “سألتك حبيبي لوين رايحين. ليش منتلفت خايفين. ويا دنيي شتي ياسمين. ع اللي تلاقوا ومش عارفين. ومن مين خايفين..”.