تداعيات قضيتي الرايبة والجفر، على صعيد ردود الفعل الواقعية والافتراضية، كشفت عن أمرين رئيسين؛ الأول وجود “فراغ سياسي” كبير في العلاقة بين الحكومة والشارع، والثاني مزاج اجتماعي متدحرج من سيئ إلى أسوأ، على صعيد الثقة بالحكومة ومصداقية الخطاب الرسمي، وعلى صعيد حالة “عدم اليقين” التي تهيمن على الشارع تجاه المستقبل.
ثمّة عاملان أساسيان يتلاعبان بمزاج الأردنيين ومشاعرهم تجاه ما يحدث أردنياً وإقليمياً:
العامل الأول هو الشعور بنعمة الراحة لاجتيازنا المنعطفات التاريخية المرعبة التي سقطت فيها دول وشعوب شقيقة، بل عموم المنطقة من حولنا، وهو ما يُحسب بالضرورة لأمرين، أولاً الديبلوماسية الأردنية الذكية، التي أخذت حسابات دقيقة وعميقة وحكيمة في التعامل مع ما يحدث، وثانياً طبيعة نظام الحكم في الأردن، تاريخياً، في نسج علاقة خاصة بالشارع، ما يجنّب البلاد والعباد مخاطر عديدة.
في المقابل يتمثل العامل الثاني، في الشعور بالاستياء من الأزمة الاقتصادية المتفاقمة، مع وصول البطالة إلى معدلات غير مسبوقة، والتحولات الاجتماعية والثقافية، من انتشار المخدرات وصعود التطرف الديني، وفشل الأحزاب والبرلمان معاً في ردم الفجوة بين المجتمع والأوساط السياسية، والضبابية السياسية، وغياب الخطاب السياسي الذي ينير الطريق أمام الناس، ويشتبك مع المواطنين وهمومهم وهواجسهم وآمالهم.
الرهان الرسمي هو على العامل الأول ومفعولاته العميقة في نفوس المواطنين، ما يرجّح مشاعر الخوف على الرغبة في الإصلاح والتغيير، وهو عامل أثبت قوته وحضوره، بخاصة عندما ينظر الأردنيون من نافذة وطنهم صباحاً أو مساءً، فلا يجدون حولهم غير الفوضى والرعب والدمار والانهيارات السياسية والاجتماعية، وحتى الأخلاقية، فيحمدون الله على أنّهم خارج تلك “الطاحونة” الدموية.
لكن مفعولات هذا الرهان هي أشبه بالمسكّنات، التي تخفف آلام الوجع، لا الشفاء والعلاج، ومن دون تقديم حلّ ناجع، أو من غير ضمانات من عدم اشتداد المرض وبلوغه منزلة أكثر خطورة، لذلك استمرار الرهان على العامل الأول ليس مجدياً، ولا يحمل رؤية حكيمة وعميقة للمستقبل، بقدر ما أنّ قيمته فقط الحفاظ على الوضع الراهن، في أحسن الأحوال.
المطلوب هو الانتقال إلى وصفة أخرى، والقراءة في كتاب مختلف تماماً، يضمن الحلّ الناجع، ومفتاح ذلك كله اليوم يتمثل بحكومة إصلاح وطني، تملك مشروعاً ورؤية وخطاباً، تشرح للناس ما يحدث، وتعطيهم تصوّراً لما ينتظرنا، وتضعهم على المسار المطلوب لمواجهة التحديات الكبيرة، هذا تحديداً ما يحتاجه الأردنيون اليوم، لمواجهة أخطر فيروس يضرب المزاج الاجتماعي، ويصيبه بالسوداوية وانعدام الثقة بالدولة ومصداقيتها.
لا نتوقع أن يأتي رئيس معه عصا سليمان ويملك حلولاً سحرية لمشكلاتنا الاقتصادية، بل حكومة تملك حسّاً سياسياً، تكتسب مصداقية في الشارع، تقدّم دواء، حتى لو كان مرّاً للمواطنين، لأنّهم إذا وثقوا بالطبيب، سيتناولونه ويرضون به، طالما أنّه الطريق الوحيدة للخروج من “الأزمة”!
حكومة الإصلاح الوطني أصبحت اليوم ضرورة حقيقية، لا يمكن تأجيلها، تلك الحكومة التي ترسم الأولويات والخيارات بوضوح، تجدد علاقة المواطنين بالدولة، وتعمل كماكينة مشتركة، متكاملة، وليست جزراً معزولة، تقوم بالواجبات المنزلية المؤجلة، إلى حين ميسرة، لديها مشروع إصلاحات اقتصادية ووطنية وثقافية وسياسية، تدرك تماماً المشكلات والأزمات، والممكنات التي يمكن القيام بها اليوم، وما يمكن أن يمهّد الطريق لغد.