«كم سيكون ذلك بالغ الأهمية أن نتمكن من دمج المعرفة التي نملكها بقدرتهم على الدفع». بهذه الكلمات ودون التباس لخص وزير الصحة الاسرائيلي ما تصبو اليه دولته من تعاون وثيق مع دول عربية لاستقطاب مرضاهم الميسورين لتلقي العلاج في المستشفيات الاسرائيلية.
لا يشك أحد بأن لدى اسرائيل مستوى طبيا رفيعا وبوجه الخصوص في مجالات معينة دقيقة ، كذلك فهو ليس بسر إن قلنا بأن « التعاون « بين الطرفين ليس بالأمر الجديد لكنه منذ اليوم لم يعد يجري خلف الكواليس وعن طريق لارنكا بل غدا علنياً وعما قريب عبر رحلات مباشرة.
وإن كانت اسرائيل محقة في ترويج سياحتها الطبية وللمرضى العرب مطلق الحرية في توجيه بوصلتهم للجهة التي يرونها الأفضل لهم ، مهنياً ومادياً ، فإلى أي مدى يا ترى يمكن للتفاؤل الاسرائيلي أن يصبح واقعياً ومثمراً في ظل معطيات مختلفة عما كانت عليه الأمور قبل عقد من الزمن ؟ ومن جهة أخرى وفيما يخصنا نحن بالتحديد في الأردن هل سيكون لذلك صدى مؤثر على المدى المتوسط والبعيد على اقتصادنا الطبي والوطني والبعض يتحفنا منذ سنوات بعبارات عنترية حفظناها عن ظهر القلب بأن مملكتنا هي الرائدة في مجال السياحة الطبية والأولى إقليمياً ؟
بداية وقبل أن نحلل مدى تأثير ما يجري على مهنة الطب الأردنية وعياداتنا ومستشفياتنا يتوجب أن نسأل أنفسنا إن كنا ما نزال على حلبة المنافسة الإقليمية في استقطاب المرضى أم أننا قد غدونا اليوم في منصة المتفرجين ؟ وإن كان الجواب سلبياً فهل هو محرج إن تساءلنا وبمرارة إن كنا قد خرجنا من الحلبة بفضل ضراوة المنافسين أم بسبب أخطاء اقترفناها بأيدينا ؟
حلت النكبات بأكثر الدول التي يتعالج مرضاها في عمان ( اليمن وليبيا والسودان ) وبدل أن نتدارك شح المحصول واصلنا مسيرة التصريحات بقوة سياحتنا الطبية التي غدت فردية لمرضى هذه الدول أو للقيام بعلاج الجرحى متفاخرين بالتصريح في 15 اشرين اول 2015 بالقيام بعلاج مائة جريح يمني بكلفة 21 مليون دولار يا للهول ونحلم بالمنافسة بعد ذلك ؟
عندما يكون بإمكان المريض الذهاب لدلهي أو بانكوك أو سنغافورة لإجراء عملية قلب مفتوح بكلفة 20 ألف دولار مع الرحلة والإقامة فنحن قد غدونا إلزامياً خارج المعادلة التنافسية. وعندما نرى ما تقدمه تركيا من « عروض « علاجية خيالية فليس أمامنا سوى الإنكفاء والحسرة والندم.
لم نعد اليوم في مرحلة إعادة بناء الثقة مع المرضى الوافدين بل غدت مرحلة صراع من أجل المحافظة على مرضانا الأردنيين الذين غدوا بفضل جشعنا وقصر نظرنا يقصدون بلدانا أخرى لتلقي العلاج. وإن كان بالإمكان استيعاب الخيار التركي حيث الكلفة أقل لكن أليس مذهلاً ما نراه من تهافت غير مسبوق لسيداتنا على مراكز التجميل في بيروت حيث يدفعن أضعاف ما يطلبه جراحون أردنيون مشهود لهم بالخبرة والمهارة ؟
ربما يكون وزير الصحة الاسرائيلي محقاً في تفاؤله واندفاعه لكن إلى أي مدى بإمكان دولته احتلال مكانة تايلاند والهند وسنغافورة وتركيا وهو الذي يركز منذ البداية على « قدرة بعض العرب على الدفع « مقابل العلاج أي بكل وضوح أن العلاج في اسرائيل سيكون باهظاً ؟ نتمنى للوزير أن يكون قد درس الوضع بكافة جوانبه لكن ما الذي تملكه اسرائيل من حوافز مغرية تفتقد إليها الدول المنافسة الأخرى لنجاح طموحاتها وهل المرضى العرب مستعدون في ظل الأزمة الاقتصادية الخانقة التي يعيشونها أن يدفعوا دون نقاش كلفة علاج باهظة وهم الذين يفاصلون الطبيب الأردني على كشفيته قبل كلفة عملية حيوية وبإمكانهم الحصول عليها في مستشفيات اَسيوية وتركية ضخمة بكلفة أفضل ؟
وهل يمكن للمرافقين للمرضى التمتع بالتسوق المغري كما يفعلون في بانكوك وتركيا وهل وزارة السياحة الاسرئيلية مستعدة للتضحية بالضيوف الأوروبيين والأمريكيين في منتجعاتهم السياحية الحضارية من أجل إرضاء بضعة مرضى عرب ومرافقيهم ؟.
الأمل الوحيد المتبقي لتحقيق اَمال الوزير الإسرائيلي هو أن يصبح التعاون الطبي موضوع علاقة وثيقة مباشرة بين الحكومات ومستشفيات اسرائيل وليست سياحة فردية عشوائية لكن هل هذه أولوية اليوم والأزمة المالية تخنق دولاً عديدة بإمكانها علاج مرضاها في عواصم يغمرها مستوى طبي فائق بكلفة زهيدة ؟
الأيام القادمة ستثبت من منا على حق لكننا في الأردن لسنا معنيين بالدرجة الأولى بما يجري فالمرضى الوافدون قد هجرونا منذ زمن ، أو بالأحرى قد هجرناهم بأنفسنا ، لكننا وبغرور وتعجرف ما نزال نكدس أطنانا من مساحيق التجميل على خدود غمرتها تجاعيد الزمن والإهمال وما زلنا نتظاهر بسياحة طبية غنية وهي التي ترقد في غرفة الإنعاش منذ زمن دون أمل بصحوة قريبة.