وسط حملة منظمة على الوجود السوري في لبنان اتخذت شكلا عنصريا يليق بالنظام السياسي الطائفي اللبناني، صفعتنا صور الشبان السوريين الممددين أرضا في عرسال، وهم يتعرضون للتحقيق أو التعذيب، على أيدي عناصر من الجيش اللبناني، على الطريقة السائدة في تراثنا الفوتوغرافي الذي صنعته الهمجية في ذروة تجلياتها في المشرق العربي.
كلمة صفعتنا ليست دقيقة، فأعيننا تبلّدت فيها القدرة على الرؤية، فلقد ألفت وتآلفت مع مشاهد الضرب والقتل والتعذيب والإذلال والتهجير والموت. أن تكون متفرجا لا ضحية هو أقصى ما تطمح إليه، لأنك تعلم في قرارة نفسك أنك ضحية مؤجّلة، وهذا يكفي كي تستمر في عادات انتظارك.
لقد انقسم الناس إلى نصفيين: ناجين وضحايا، الضحية تعلم أنه حكم عليها بالموت أو التشرّد، والناجي يعرف أن نجاته موقتة، لأنه معرض في أي لحظة للتحول إلى ضحية.
حتى الشبيحة الذين يمارسون البشاعات، يعرفون في قرارة أنفسهم أنهم معرضون في أي لحظة للتحول إلى ضحايا.
لا يهدف هذا الكلام إلى تبرئة أحد، بل هو محاولة للوصف، والوصف يحتاج إلى أدواته، التي تهرب من أمامنا من شدة الهول الذي على اللغة التعامل معه. لقد فقدت اللغة قدرتها على إيجاد الكلمات الملائمة، وصارت الصورة هي لغة التخاطب المفهومة.
لا أعلم من سرّب صور التعذيب الوحشي في عرسال، فالمسألة لا تشير فقط إلى ملاحقة إرهابيين من تنظيم «الدولة» (داعش) والنصرة، بل تحمل معاني أكثر عمقا، هدفها أن تستثير غرائز عنصرية لبنانية مكبوتة ضد الشعب السوري، مستعيدة، ولكن هذه المرة على يد دولة لبنانية تشارك المقاومة الإسلامية في حكمها، ذلك الشعار اللعين الذي أطلقته القوات اللبنانية في أحد أزمنة الحرب اللبنانية والذي يقول: «السوري عدوك».
والغائب عن هذا القاموس العنصري هو قتال حزب الله في سوريا دفاعا عن الديكتاتور السوري، إلا إذا كان أساطين التنظير في محور الممانعة قرروا أن بشار الأسد ليس سوريا، وبالتالي فإن منطق الانتقام لا ينطبق على السلالة الأسدية!
يبدو لي أن إخراج السلالة الأسدية من الصفة السورية ليس خاطئا، فالواقع أن هذا النوع من الخطاب العنصري لا وطن له، فالأوطان مجرد قمصان يمكن استبدالها في سبيل إعلاء شأن خطاب عنصري طائفي، لا أفق له سوى تدمير المنطقة.
وهم في ذلك يلتقون مع «داعش» على مستويين: المستوى التقني الذي حوّل الهمجية إلى نظام للحكم والتحكّم، والمستوى الايديولوجي الذي لا يرى في الأوطان سوى معابر إلى دولة الخلافة أو إلى دولة ولاية الفقيه.
نعود إلى عرسال لنتساءل لماذا؟
واللماذا لا تمس الممارسة العملية، فهذا النوع من الممارسات شهدناه على أيدي النظامين السوري والعراقي، والعديد من الأنظمة العربية، كما تحوّل إلى نسق متكامل في مواجهة انتفاضة الشعب السوري ضد الاستبداد، ثم صار ايديولوجية متكاملة مع «إدارة التوحش»، على الطريقة الداعشية، بل تتعلق بنشر الصور وتوزيعها على وسائل التواصل الاجتماعي.
كما ترون فلقد صار النقاش شكليا، إذ لولا الصور لما توقف أحد عند هذا النوع من الممارسات، فهي ممارسات عربية ودولية تم تشريعها بحكم العادة، وبحكم لجوء الولايات المتحدة إلى تعميم صور التعذيب والإذلال من غوانتنامو إلى أبو غريب بصفتها جزءا من ايقونوغرافيا الخراب في عالم اليوم.
لكن النقاش حول الصورة ليس نقاشا شكليا مثلما نظن، فقد علمتنا تجربتا النظام السوري و«داعش» أن الصورة هي جزء لا يتجزأ من عملية القمع، إذ أنها تهدف إلى إذلال الخصم وترهيبه في آن معا. عليك أن تأتي ذليلا كي تلتحق برعية مملكة الصمت والخوف. من دون صور إجبار الناس على تقبيل صور بشار الأسد وإعلان إلوهيته، ومن دون صور الإعدامات وقطع الرؤوس والرجم والرمي من المباني، فإن كل فكرة إدارة التوحش تصير بلا جدوى.
من سرّب صور الجيش اللبناني في عرسال؟
لا أملك جوابا عن هذا السؤال ولا أريد الدخول في لعبة الاحتمالات، رغم اقتناعي بأن الصور لم يجرِ تسريبها بل وزعت ونُشرت بشكل متعمّد.
الكلام عن المرض اللبناني بالعنصرية، وهو أحد أعراض المرض الطائفي اللبناني المزمن، لا يكفي كي نجيب عن هذا السؤال.
ففي هذا الوطن الصغير الذي يقيم فيه حوالي مليون ونصف مليون لاجئ سوري، فان لعبة الإذلال والانتقام والتشبيح تشير إلى قصر نظر أو إلى مشروع جنوني يهدف إلى سيطرة الطائفة اللبنانية المسلحة على البلد.
قصيرو النظر في «التيار الوطني الحر» الذي أوصل أول رئيس ماروني «قوي» إلى سدة الرئاسة، بعد اتفاق الطائف، يتغرغرون بالانتقام من السوريين، فهم بحكم انعطافتهم الطائفية الحادة، يستثيرون غريزة الانتقام من كل ما هو عربي أو ينتمي إلى الشعوب الفقيرة. مشهدية عرسال المروعة تشفي جزءا من غليلهم، وتجعلهم يستعيدون «حلمهم» بحكم لبنان بحذاء القمع العسكري. إن قصر نظرهم يصور لهم أن المحور الإيراني وُجد من أجل خدمتهم وخدمة كبتهم الطائفي، وهذا يسمح لهم باستعادة الحلم المُجهض الذي صيغ خلال الاجتياح الاسرائيلي عام 1982، بأنهم يستطيعون استعادة كل السلطة.
أما أصحاب مشروع الاستيلاء على السلطة استنادا إلى الطائفة المسلحة، فإنهم يبدون أكثر هدوءا وعقلانية، فهم واثقون بقوتهم، ومتيقنون من غباء حليفهم «القوي»، لكنهم يرسلون عبر هذه الصور رسالة واضحة بأن القمع والترهيب هما سلاحهم الأخير. وأن قمعهم للسوريين في سورية يجب أن يترافق مع قمع السوريين اللاجئين في لبنان.
هذه هي الحكاية كلها، وهي حكاية ما كان لها أن تتخذ هذه الأبعاد لو رضي قصيرو النظر وحلفاؤهم ببناء مخيمات منظمة وشرعية للاجئين السوريين في لبنان. غياب التنظيم يقود إلى الفوضى التي يمكن التحكّم بها من خلال القمع، أو هكذا يظنون.
هذا الكلام لا ينفي بل يؤكد شعـــوري بالعار أمام هذه المشاهد المروعة. إنه عار لا يمحوه ألف اعتذار، بل يحتاج إلى استعادة مفهوم العدالة الكفيل وحده باخراجنا من متاهة التوحش.