المتصارعون على تركة «داعش» سيجدون أنفسهم جميعاً أمام الحاجة إلى سياسات جديدة بعد هزيمة التنظيم. تبدو إدارة الرئيس دونالد ترامب كأنها وحدها مدعوة إلى توضيح رؤيتها لـ «اليوم التالي». وذلك لأنها تصب كل جهودها على محاربة الإرهابيين. في حين يركز النظام السوري وحلفاؤه من الميليشيات التي يقودها «فيلق القدس» حملاتهم على الفصائل المعارضة لكسب مزيد من الأرض. والكرد أيضاً الذين يشكلون القوة البرية الضاربة في هذا القتال ويحظون بدعم سخي من واشنطن و «التحالف الدولي» يراهنون هم أيضاً على كسب مزيد من الأرض، شأنهم شأن «البيشمركة» في العراق. أما روسيا فيعنيها أن تبقى قنواتها مفتوحة مع جميع اللاعبين ليتسنى لها الاستئثار برسم قواعد اللعبة. أميركا مدعوة قبل غيرها لأنها ستجد نفسها في غضون أيام مع اقتراب تحرير الموصل وتضييق الخناق على الرقة، أمام معركة شرسة مع إيران إذا كان عليها أن تترجم حملتها لتطويق نفوذ الجمهورية الإسلامية في المنطقة. وقد برهنت الأخيرة إثر الغزو الأميركي للعراق على قدرتها في مقارعة الأميركيين ودفعهم إلى الخروج من بلاد الرافدين. وهي اليوم تحظى بدعم روسي واضح يسهل عليها تحقيق استراتيجيتها.
يصعب التسليم بأن إيران ستكون قادرة على إدارة كل مناطق انتشارها. كان يقال أن القوة العظمى الأولى ليست قادرة على شن أكثر من حربين في آن واحد، فكيف يمكن طهران أن تخوض هذه السلسلة الطويلة من الحروب؟ لا شك في أن تمددها الحالي في المحافظات الغربية في العراق وفي مناطق شرق سورية وشمالها فرضته وتفرضه الحرب على تنظيم «الدولة». لكن الأمر لن يبقى كذلك بعد هزيمة «داعش». لن يسكت أهل السنة في هذه المناطق. صحيح أن بعض العشائر السنية في الأنبار وغيرها يقيم حالياً تحالفاً مع «الحشد الشعبي». لكن الغالبية ستدفع هؤلاء إلى مراجعة حساباتهم. يعني هذا الاستعداد لحروب من نوع آخر. لذلك من العبث أن يواصل «الحرس الثوري» بميليشياته استراتيجية دحر كل الفصائل في سورية وتحقيق «نصر مؤزّر» كالذي تحقق في اليمن! يستحيل أن يحكم قبضته على الغالبية السكانية على رغم ما لحق بها من قتل وتهجير وتدمير مدن ودساكر. صحيح أن تجربة العراق بعد الغزو الأميركي منحت الجمهورية الإسلامية فرصة «وراثة» سلطة صدام حسين في بغداد، ونجحت في تمكين القوى الشيعية على اختلافها من تقاسم مواقع الدولة ومؤسساتها كافة. لكن الصحيح أيضاً أن التمكين هذا ظل منقوصاً؛ فالقوى السنية التي أُخرجت من العملية السياسية سهلت قيام «قاعدة أبي مصعب الزرقاوي». ولولا «الصحوات» التي وُعدت بتصحيح الخلل السياسي في حكم البلاد لما انتهت تلك المرحلة بهزيمة الرجل الإرهابي. وتكرر الأمر مع «أبي بكر البغدادي» الذي سهلت له سياسات نوري المالكي الفئوية ومناكفته القوى السنية، الأرض لإعلان «دولة الخلافة» وإغراق المنطقة في دوامة القتل والعنف الأعمى والتدمير والتهجير.
ومهما تباهت طهران بحضورها في أربع عواصم عربية، إلا أن هذا الحضور لم ولن يحجب حضور الآخرين. ولا حاجة إلى ذكر ما تعاني مع حلفائها في اليمن. وكذلك في لبنان حيث من «حسنات» الصيغة الطائفية أن لا قدرة لطائفة على إلغاء شريكاتها. أما العراق فلم يعرف إلى الآن الهدوء المرجو. ولا القوى والأحزاب الممسكة بالسلطة أو تلك التي خارجها عرفت بعد عقد ونصف عقد كيف تتوافق على إدارة اللعبة السياسية بحدها الأدنى. ولن يكون بمقدور ميليشيات «الحرس الثوري» أن تحكم سيطرتها على المحافظات الغربية في العراق. سيغرق في حرب استنزاف، وستولد مرحلة ما بعد «داعش» حروباً أشد خطورة. أضف إلى ذلك أن القوى العراقية العربية بشقيها الشيعي والسني لم تنجح في التفاهم مع إقليم كردستان، على رغم أن الدستور الجديد نظم العلاقة بين الإقليم وبغداد مالياً ونفطياً وسياسياً، ووضع آلية لتسوية الخلاف على الأراضي المتنازع عليها. ولا حاجة إلى التذكير بالخلافات والتهديدات المتبادلة بين زعيم «دولة القانون» ورئيس الإقليم مسعود بارزاني الذي لا يفكر لحظة في التنازل عن كركوك والمناطق التي حررتها قواته من «دولة الخلافة». وحتى «التفاهم» المرحلي القائم بين ميليشيات «الحشد» وقوى كردية تناصب رئاسة كردستان العداء قد ينهار في المحطات المفصلية التي يتعلق عليها مصير الكرد عموماً ومستقبلهم.
بالطبع يخشى الأميركيون أن تنزلق بلادهم إلى حروب جديدة في الشرق الأوسط. لكن إدارة ترامب تحاذر خوض مثل هذه المغامرة، تعتمد على حلفائها الكرد وبعض القوى السنية العربية، خصوصاً في سورية. لكن الرهان على هذين المكونين سيكون مغامرة محفوفة بالخطر. سيكون الوضع في مناطق وادي الفرات شرق سورية أكثر تعقيداً مما هي الحال مثلاً في محافظات غرب العراق. ثمة عداء تاريخي دفين يحكم العلاقة بين العشائر العربية والكرد في الجزيرة. أعداد كثيرة من هؤلاء غادرت مناطقها في تركيا في عشرينات القرن الماضي، هرباً من قمع حكومة أتاتورك، إلى كردستان سورية، «روج آفا». وظل عشرات الآلاف منهم محرومين من الجنسية السورية حتى عشية اندلاع الأزمة قبل نحو ست سنوات. ومارست قيادات البعث سياسة «تعريب» لمناطق الكرد، تماماً كما فعلت قيادة البعث في العراق. واختلف الوضع في سنوات الخلاف بين البعثين. إذ لجأت دمشق إلى مغازلة الكرد بغية استخدامهم وبني جلدتهم في كردستان لإقلاق بغداد. لذلك، كان غضب النظام كبيراً عليهم عندما حدثت انتفاضة القامشلي ربيع 2004، يوم دمروا رموز النظام ومباني ومقرات حكومية. فأعادت الحكومة المركزية تحريك الصراع بينهم وبين العرب، وعاقبتهم عقاباً شديداً تمثل في إهمال مناطقهم التي بقيت لفترة بلا مقرات ومرافق رسمية تقدم إليهم الخدمات.
لذلك، وقفت الغالبية الكردية في سورية على الحياد في الحرب بين النظام والمعارضة. وعمل «حزب الاتحاد الديمورقراطي» على بسط سلطته على معظم المناطق الكردية، مستفيداً من رغبة النظام أيضاً في إبقاء هذا المكون خارج المواجهة معه. ولا شك في أن هذا الحزب الذي تشكل «وحداته» الركن الأساس والراجح في «قوات سورية الديموقراطية»، يفيد إلى أقصى الحدود اليوم من دعم الولايات المتحدة. وقد أظهر فعلاً أنه القوة الأكثر فاعلية على الأرض. وهو يحظى بدعم روسي أيضاً. ويفيد من الهدنة القائمة بين إيران وحزب العمال الكردستاني لارتباطه الأيديولوجي والعضوي بهذا الحزب. وقد بدأ للتو في منع العرب السوريين من دخول مناطق حررها من «داعش» بهدف بقاء الغلبة في هذه المناطق للعنصر الكردي، وله بالطبع أن يتذرع بأن إجراءاته هدفها الخوف من تسلل عناصر إرهابية مع العائدين من اللاجئين والفارين من سعير الحرب. وحتى «الإدارة العربية» الموعودة لمدينة الرقة بعد تحريرها، لن تكون أفضل «استقلالاً» عن نفوذ «وحدات حماية الشعب» من المجلس الذي يدير مدينة منبج!
إن من السذاجة الاعتقاد بأن الكرد الذين عانوا الحرمان لعقود سيسلمون مجدداً بالعودة إلى أحضان الدولة المركزية، أو سيقدمون تنازلات في سبيل إعادة توحيد البلاد. قدموا عدداً هائلاً من الضحايا في كوباني ومنبج، ولا يزالون يقدمون كل يوم في معركة تحرير الرقة. وهم يلوحون الآن بالرد على أي هجوم تركي على مناطقهم ولن يترددوا في مقارعة قوات النظام وحلفائها، و «الحشد الشعبي» العراقي إذا تجاوزت حدود مناطقهم وإدارتهم الذاتية.
روسيا الأخرى ستجد نفسها قريباً أمام مراجعة حتمية لسياستها التي يرى إليها بعضهم غامضة وضبابية، بينما هي واضحة تماماً. تدرك أن قوات النظام ليست قادرة ولن تكون قادرة في المدى المنظور على استعادة السيطرة على كامل الأراضي السورية. ومنذ اندلاع الأزمة كان الرئيس فلاديمير بوتين يتساءل في لقاءاته مع قادة المنطقة، هل يعتقدون بأن النظام سيكتفي بمنطقة الساحل، أو في أحسن الأحوال بما يسمونه «سورية المفيدة»؟ حققت موسكو مبتغاها من التدخل. أقامت قاعدتين دائمتين نالتا «شرعية» كاملة من دمشق وتشكلان منصة أو باباً واسعاً نحو الإقليم كله، وما تسعى إليه في آستانة ثم جنيف ليس تسوية شاملة تعيد تأهيل النظام لحكم البلاد. وليس جديداً القول إن «مناطق خفض التوتر» التي تعمل لتثبيتها على الأرض ستشكل في مرحلة ما «تقسيماً» فعلياً على الأرض ينتهي أقله باعتماد دستور كانت اقترحت مسودة له يقوم على الفيديرالية، كما هي حال العراق.
لا يعقل في نهاية المطاف أن يواصل الكرملين اعتماده على الميليشيات التي ترعاها إيران في بلاد الشام، أو أن يسمح لها بجره إلى مواجهة أو صدام مع الولايات المتحدة. أو أن تدفعه إلى التفريط بعلاقاته مع أهل السنة في الإقليم، خصوصاً دول الخليج النفطية. ما يعنيه في هذه المرحلة هو تهدئة اللعبة برسم قواعد أمنية مع طهران وأنقرة وعمان وتل أبيب وواشنطن. فهو يعرف أن الضغوط التي تمارسها هذه الأطراف على الفصائل المعارضة لا يمكن أن تؤسس لهدنة دائمة أو حل سياسي يوفر إعادة التعايش بين المكونات المتحاربة. وداعاً وحدات بلاد المشرق!