تمثل أحداث العام 1989 وتداعياتها عالمياً وأردنياً بما يرمَز إليها بانهيار جدار برلين، لحظة وعي جديد بالنسبة للمشتغلين بالعمل العام والثقافة، كانت لحظة عنوانها صعود الديمقراطية والحوسبة، بما تعنيه من انهيار الشموليات، وصعود الفرد في مواجهة المجتمعات، والشبكية في مواجهة الهرمية المؤسسية والمركزية.
كان السؤال البديهي والمؤسس للحظة الوعي تلك هو بطبيعة الحال “النهضة والازدهار”، ولكن ولسبب كان يبدو غامضاً كانت الإجابة أردنياً هي جدال بين استعادة اللحظة التاريخية التي تشكلت العام 1956 عندما تمكن تحالف وطني قومي يساري أن يشكل حكومة مستندة إلى غالبية برلمانية أو الاستجابة لموجة اجتماعية صعدت بقوة تعبر عن نفسها بمقولة “الإسلام هو الحلّ”.. وأهدرت اللحظة التاريخية كما أهدر الربيع العربي في ما بعد في جدل أيديولوجي لا مجال فيه للاستماع.
في ظل الاتجاهات الأيديولوجية (دينية أو وطنية أو قومية أو مقاوماتية) تصعد أيضا الروابط القرابية وتفقد الانتخابات العامة معناها وجدواها، وتغيب البيئة الاجتماعية الحاضنة لفرص الجدل السياسي الحقيقي الذي يستمد وجوده من الفردية والعقلانية الاجتماعية والأخلاقية، وفي ذلك فإن الكتابة في الشأن العام تتحول إلى عداء مع السلطة والمعارضات والتيارات كلها، فلا مجال لمساحة مستقلة بين الفسطاطين. ولا مكان لأحد من الكتاب إلا في أحدهما، ولا مجال للبقاء إلا للدفاع والصراع الوجودي، فمن لم يذد عن حوضه بسلاحه يهدّم، ومن لا يظلم الناس يظلم، كما في المقولة الخالدة للشاعر الجاهلي زهير بن أبي سلمي، والحال أن خلود بيت الشعر مستمد من خلود الحالة نفسها.
يمكن ببساطة التمييز بين العقلانية والأيديولوجيا بالتزام أصحاب فكرة أو مقولة باحتمالية أن يكونوا مخطئين واحتمالية معقولية وصواب الأفكار والمواقف الأخرى، وطالما أن ضمير المؤمن لا يتقبل احتمال صواب الآخر فلا مجال إلا للصراع مهما تظاهرنا بالتقبل والحوار، فالموقف العقلاني الذي يسلكه أحد من الناس يلزمه بالنسبية وعدم اليقين، بمعنى ان الصواب الذي توصل اليه هو صواب في هذه اللحظة، ما يعني بالضرورة أن الخطأ نسبي أيضاً. لكن الأسوأ من يقين الأيديولوجيا وخلودها أنه تتشكل حولها مؤسسات ومصالح أسوأ منها وأشد فساداً، ويصبح المساس بها حرباً على مصالح وأشخاص واحتكارات راسخة.
لا يمكن مخاطبة أحد بالحجج العقلية الا إذا كان مستعداً للاستماع والتفكير العقلاني، والخلافات التي مردها إلى مناهج عقلانية محدودة ويسهل إدارتها وتنظيمها، ولكن عندما ينشئ الناس مواقف أيديولوجية غير عقلانية فلا يمكن ان يستمعوا الى غير ما يريدون، ولا يملكون تصنيفاً للأفكار والمواقف يسمح بالاختلاف او القبول والتعايش، فالإيديولوجيا لا تنشأ عن موقف عقلاني والتفكير العقلاني لا ينشِئ أيديولوجيا، وفي ذلك تتشكل محنة الكاتب المستقل أو حتى الكاتب المنحاز ولكنه يصدق أنه قادر على ممارسة عقلانية في فسطاطه!
لا يكتب أحدنا بالطبع إلا ويتطلع أن يحظى ما يكتبه بأكبر عدد ممكن من التأييد، وما من أحد يشارك في شبكات التواصل إلا وهو يتطلع الى صداقة جميع الناس أو اكبر عدد ممكن منهم. وفي ذلك فإننا نقدم أنفسنا وأفكارنا وآراءنا ويعرف بعضنا بعضاً كما نحن، وليس في ذلك ما يدعو كما يفترض إلى الكراهية والنفور، فكيف يتحول هذا السلوك البسيط إلى عداء وكراهية وسبب للقتل أو السجن أو التضييق في الفرص والعمل والحياة!
والكتابة ابتداء ألم ووحشة حتى وأنت قادر على أن تكون حراً ومستقلاً، فكلما تمضي في الكتابة تمعن في العزلة، فلا كتابة بلا قراءة، ولا قراءة من غير عزلة، ولا عزلة الا يصاحبها جهل اجتماعي، ثم تكتب ما تعرفه، ولكنك تجهل ما يتواطأ الناس على كتمانه.