في يوم الخميس 17 نيسان (أبريل) 2014، أعلن وزير الشؤون الخارجية العماني يوسف بن علوي، في حديث لصحيفة «الحياة» عن انتهاء أزمة «سحب السفراء» مع قطر. ثم وصف ما حدث بأنه كان «بين إخوة وانتهى»، مضيفاً أن العلاقة بين دول مجلس التعاون الخليجي طبيعية «وكلها صفاء» (كذا). عودة الأزمة ذاتها للانفجار بعد ثلاث سنوات على نحو أكثر خطورة تقول كل شيء عن وصف الوزير لها آنذاك. يبدو الأمر هكذا للمواطن الخليجي، وللمراقب من الخارج. لكن ابن علوي كان يعرف أنه بما قاله عن الأزمة لم يكن يصف الواقع. كان يلمع هذا الواقع، والتلميع نقيض الوصف. كان يقول للناس شيئاً عكس ما يعرفه هو معرفة اليقين. لكن ابن علوي، وللحقيقة، لم يخرج في ذلك عن تقليد عربي راسخ عنوانه «التكاذب»، وتلميع شيء غير قابل للتلميع.
التكاذب خطاب سياسي يعبر عن حال سياسية بعينها، لا تزال ملازمة للوضع العربي منذ قرون على الأرجح. يتخذ هذا التكاذب صيغاً متعددة، وهو أحد الأسباب وراء توالد واستمرار الأزمات العربية. البعض يستغل هذه الآلية لاختلاق، أو تفجير أزمة لهدف أو مصلحة يرى أنها تستحق هذه المجازفة. هل تغير الواقع الآن مع انفجار أزمة قطر؟ لنرَ.
حجم الأزمة القطرية وخطورة سابقتها وحجم الصدمة الذي أحدثته، تفترض أن الواقع السياسي يتغير بوتيرة أسرع مما كان عليه حتى الآن. هكذا توحي صورة المشهد. لكنها صورة لن تتضح تماماً إلا اذا تبلور الحل أو المخرج الذي ستتفق عليه الأطراف. والسؤال الذي يشغل بال الناس في المنطقة: ما هي الحلول الممكنة لهذه الأزمة الكبيرة؟ هناك ثلاثة حلول ممكنة. الحل الأول أن تستجيب قطر لمطالب الدول التي قطعت العلاقة معها. لكن اللافت أن هذه الدول لم تضع قائمة بمطالبها من الدوحة. وأعلن وزير الخارجية السعودي عادل الجبير، الجمعة الماضي من لندن أن الدول الأربع (السعودية ومصر والإمارات والبحرين) ستضع قريباً قائمة بهذه المطالب. يوحي السلوك القطري حتى الآن بأن استجابة الدوحة لمطالب، تتوقع بعضها أو أغلبها، لن تكون في المتناول بالسهولة التي يتمناها البعض. قطر تنكر كل الاتهامات الموجهة لها، ما يعني أن الحل الذي أنهى أزمة السفراء عام 2014 لم يضع حداً لها، وبالتالي غرس ضرورة العودة إلى جولة جديدة من المفاوضات. ومن المعروف أن سحب السفراء حصل بسبب أن قطر لم تلتزم ببند سابق اسمه «اتفاق الرياض»، وقع عليه أمير قطر الشيخ تميم بن حمد في تشرين الثاني (نوفمبر) 2013، أي قبل ثلاثة أشهر من سحب السفراء. توالد الأزمات على هذا النحو يشير إلى أن قطر لا تستعجل التوصل لحل نهائي، وهو ما فرض اللجوء لقطع العلاقات، وتطبيق حق المقاطعة ضد قطر لإيصال الرسالة في شكل أكثر وضوحاً.
الحل الثاني الممكن هو اللجوء لعمل عسكري ضد قطر لفرض تغيير السلوك، وليس تغيير النظام هناك. وهذا خيار لم يكن مطروحاً من قبل، وليس مطروحاً الآن، والجميع مدرك أنه ليس في مصلحة أي من أطراف الأزمة في كل الأحوال. وبالتالي تكون قطر استعجلت باستدعاء وجود عسكري تركي على أراضيها. وإذا ما أخذنا في الاعتبار أن قطر كانت وقعت اتفاق دفاع مشترك مع تركيا قبل الأزمة الأخيرة بنحو السنتين، فإن السؤال الذي يفرض نفسه: هل استعجلت باستدعاء الوجود العسكري التركي؟ أم أنها دفعت بالأمور إلى المنعطف الحالي لتبرير الاستدعاء واستعجال هذا الوجود؟ ربما أن القيادة القطرية ليست مطمئنة تماماً لغطاء قاعدة العديد، نظراً لاتساع مروحة التحالفات الأميركية في المنطقة. لذا ترى حاجة لتدعيم هذا الغطاء بوجود تركي. هنا يتبدى مأزق قطر كدولة صغيرة تحاول ممارسة دور أكبر من حجمها وإمكاناتها. في كل الأحوال، إذا كان الخيار العسكري ليس مطروحاً، وتركيا لن تجازف بالاصطدام بالسعودية، خصوصاً بعد تدهور علاقاتها مع أغلب الدول العربية، تبقى الخطوة القطرية لافتة لناحية أنها تضمر عدم جدية حقيقية لإنهاء مسلسل الأزمات، وذلك في ضوء ممارسة الدوحة دوراً ليس ودياً مع دول تشترك معها في كل شيء تقريباً، بما في ذلك عضوية أهم مجلس إقليمي.
الحل الثالث الممكن هو بقاء الأزمة تراوح في مكانها من دون حل نهائي، مثلها في ذلك مثل بقية الأزمات العربية كالأزمة اللبنانية، وقضية الصحراء في المغرب، والأزمة العراقية… إلخ. هل هذا ما تريده الدوحة؟ وهل يتفق هذا المنحى مع الخط التنموي الذي تأخذ به كل دول مجلس التعاون، وأولاها قطر؟
الذي يبدو حتى الآن أن قطر تفضل الخيار الثالث، أو خليطاً من الخيارين الأول والثالث. هي لا تفضل الخيار العسكري، لكنها ترى أن الاستجابة بتغيير سلوكها السياسي تنتقص من سيادتها، وحقها في اختيار السياسة الخارجية التي تراها في مصلحتها. هذا ما يردده منذ انفجار الأزمة وزير الخارجية محمد بن عبدالرحمن آل ثاني. وهذا موقف غريب، خصوصاً أنه يصدر من الدوحة تحديداً التي راكمت خبرات وتجارب كثيرة في الوساطات والمفاوضات، وتدرك قبل غيرها أن حلول الأزمات تتطلب تنازلات أحياناً متبادلة، وأحياناً أخرى لا بد أن يتحملها، كلها أو أغلبها، طرف من دون آخر. ثم إن عضوية قطر في مجلس التعاون، وهي عضوية تأسيس، تفرض عليها مراعاة مصالح أعضاء المجلس الآخرين، وأن يراعي هؤلاء الأعضاء مصالح قطر أيضاً، الأمر الذي يعني تنازلات متبادلة. وإلا لماذا توقع قطر اتفاقات إنهاء أزمات مع أعضاء مجلس التعاون، ثم لا تلتزم بها في نهاية المطاف بذريعة المحافظة على سيادتها؟ وهي محقة تماماً في تمسكها بهذا الحق. لكن أمام ذلك، هل التزمت بعدم انتهاك حق الآخرين؟ أليس التخابر السري مع المعارضة البحرينية انتهاكاً لسيادة البحرين؟ لماذا استضافت قطر في شكل سري موسى كوسا، رئيس استخبارات العقيد معمر القذافي، وهو الذي كان يشرف على محاولة اغتيال الراحل الملك عبدالله بن عبدالعزيز؟ وقبل هذا وبعده، ماذا عن تسجيلات الأمير السابق الشيخ حمد بن خليفة، ورئيس الوزراء السابق حمد بن جاسم، مع العقيد القذافي؟ محزن جداً أن يضطر المرء لطرح أسئلة مثل هذه على دولة واعدة مثل قطر، وعضو مؤسس في مجلس التعاون. السيادة حق مشترك، وكذلك مسؤولية المحافظة عليه. وهذا الحق كان السبب الأول لإنشاء المجلس.
من الاستعراض السابق، ومن تاريخ الأزمة مع قطر التي بدأت عام 1996، يصبح من الواضح أنه مهما يكن الحل الذي ستنتهي عنده الأزمة، فإنه لا بد أن يحتوي على ثلاثة عناصر، من دونها سيبقى حلاً شكلياً، قد يوفر مخرجاً موقتاً، لكنه سيؤسس في الوقت نفسه لأزمة مقبلة، وستكون أكبر حجماً وأكثر خطورة من الأزمة الحالية. العنصر الأول إخراج قطر من عقدة الانقلاب الأبيض الذي أتى بالشيخ حمد بن خليفة إلى الحكم عام 1996. وهذا أمر يعود للقيادة القطرية قبل غيرها، لكن يمكن لدول من مجلس التعاون أن تساعد في هذا الموضوع. العنصر الثاني، أن تتوقف قطر تماماً عن ممارسة الدور الذي فرضته عقدة الانقلاب الأبيض. العنصر الثالث أن الحل يجب أن يكون جزءاً من اتفاق أشمل على إحداث تغييرات في نظام وعمل مجلس التعاون. تركيبة المجلس، ونظامه الأساسي، وآلية عمله من بين الأسباب التي سمحت باستمرار مسلسل الأزمات مع قطر، وهو مسلسل تجاوز عمره الآن أكثر من 20 سنة. تفصيل العناصر الثلاثة وأهميتها سيكون موضوع مقالة الأسبوع المقبل.