كان مدهشاً بالنسبة إليّ أن يسألني صديقي الصحافي الكردي المقيم في العراق عن قانون الانتخابات في لبنان. ذاك أنني كنت أعتقد أن لبنان فقد قدرته على إثارة فضول صحافي يعيش في المنطقة ويرصد الوقائع فيها. وهو، أي آكو، الصديق الكردي، أشعرني بسؤاله عن قانون الانتخاب في بلدي أن للبنان ربما أثراً لم يفقده على رغم ضحالة الحياة العامة فيه، وانعدام قدرته على التأثير في الوقائع الجسام التي يشهدها إقليمنا.
أيام قليلة عقب اتصال آكو أمضيتها في تعقب الوقائع اللبنانية، وما يمكن فيها أن يثير فضولاً ورغبة في الرصد. وردّني ذلك إلى قناعتي الأولى المتمثلة في أن لبنان بلد هامشي، وأن نقاشاً «هائلاً» حول قانون للانتخاب وظيفته التجديد لطبقة سياسية فاسدة وتافهة، وأن عناصر قوة لبنان سلبية، وأننا نمارس نوعاً من النكران حيالها، فنستبعدها ونقول إن بلدنا عديم التأثير، وإن قانون الانتخاب لا قيمة له في ظل تقلص القدرة الداخلية على التأثير.
إذا أراد المرء أن يفكر في لبنان من خارجه، ومن مسافة تتيح لراصده أن يعاين المشهد بعيداً من تفاصيله، فالنتيجة ستكون أن حزب الله أهم ظاهرة في لبنان، على مختلف المستويات. هو القوة الأبرز والأكثر تأثيراً وقدرة على جذب الانتباه. وظيفة الحزب تفوق وظيفة لبنان وتتعداها. لكن هذا الحضور «اللبناني» يعود ليرتد على الواقع الداخلي على نحو كارثي. والقوة التي يمثلها الحزب للبنان تبدو سلبية وهي تستنزف طاقة هذا البلد عبر الجهود المبذولة لامتصاص الهزات الارتدادية التي تحدثها.
وظيفة النظام المالي اللبناني اليوم التي تكاد تكون وحيدة هي إيجاد مخرج للعقوبات الأميركية المتوقعة على الحزب وعلى لبنان، ووظيفة النظام الأمني والعسكري التعامل مع تبعات مشاركة حزب الله في القتال في سورية، وإحدى الوظائف الرئيسة لقانون الانتخاب تلبية شروط الحزب الانتخابية، أما التحالفات السياسية والانتخابية المتبدلة والمتقلبة، فلم يقترب تأثيرها من منطقة نفوذ الحزب.
الحزب ترك لنا مساحة تحرك عامة. فوزير خارجيتنا ابتسم لأحد السفراء الغربيين حين سأله عن قانون الانتخاب، والسفير فهم من ابتسامة الوزير أن القانون شأن لبناني لا دخل له فيه، ولا حق له بالسؤال عنه. هذه طرفة شغلت الرأي العام اللبناني لأسبوع. صحيح أن الطرفة انتهكت ذكاء اللبنانيين، لكنها شغلتهم عن التفكير بما هو أكثر مأسوية. وبهذا المعنى يبدو جبران باسيل، وزير الخارجية، هو اللبناني النموذجي، أي وزير الخارجية العديم التأثير الذي لا تطيحه طرفة بحجم ما كاشف به اللبنانيين عندما التقى السفير الغربي.
ربما يأتي ترتيب نادر صعب، طبيب التجميل اللبناني، بعد حزب الله تماماً في ترتيب أولويات الهموم اللبنانية، ذاك أن قضية الأخير مع مريضته التي توفيت، وقبلها بأسبوع قصة شريط الفيديو الذي ظهر فيه صعب مع سيدة، شارحاً المقاييس النموذجية لـ «أن تكوني جميلة»، أثارا نقاشاً يفوق بأهميته نقاش القوى السياسية حول قانون الانتخاب، على رغم أنه لا يرقى في أهميته إلى مستوى صمتهم حول الوظيفة الإقليمية الكبيرة والمرهقة الملقاة على عاتق حزب يقترعون له ويتحالفون معه في الانتخابات المزمعة.
النقاش الذي رافق ظاهرة طبيب التجميل نادر صعب لامس قيماً وخاطب حساسيات وكشف قدرات في تناول الأجسام بصفتها شيئاً يستحق الاحترام، ويستحق التخفف من قيم الجمال الرثة، ومن قيود الوظيفة الاستهلاكية، ولعتقه من عبودية جديدة موازية لعبودية الأحزاب الدينية والمذهبية. وكشف النقاش أيضاً عن انحيازات متقدمة للبنانيين ولوسائل إعلام رفعت الصوت في وجه رجل التجميل، على رغم ما يتمتع به هذا الأخير من قوة ونفوذ.
قانون الانتخاب، بما أوكل إليه من مهام تتمثل في تعديلات طفيفة وغير جوهرية على التركيبة السياسية، هو تثبيت واستئناف للموقع الهامشي للبنان، في وقت يشهد لبنان تقدماً على مستويات ميكروسياسية تعجز القوانين عن الإحاطة بها واستيعابها بصفتها مؤشرات تقدم طفيفة. فالقوى السياسية «الحية» في لبنان رفضت الكوتا النسائية، في وقت يشهد موقع المرأة في دورة الحياة مزيداً من المؤشرات الإيجابية. هذا الأمر يبقى خارج السياسة. ومن وظائف قانون الانتخاب الجديد أيضاً محاصرة أي ظاهرة مستجدة على الانقسام السياسي والمذهبي، لكن الواقع يكشف بدوره اختراقات ليست كبيرة لكنها لافتة لواقع الانقسام وفق منظومة 8 و14 آذار السقيمة، والتي تقاسم طرفاها غنائم القانون الجديد.
ولبنان بلد مضجر فعلاً إذا كان قانون الانتخاب البائس هذا حدثه الأبرز. حزب الله أكثر استدراجاً للتأمل في الواقع اللبناني فيه، ونادر صعب أكثر بعثاً على التأمل بأحواله. والغريب أن قانون الانتخاب لم يطمح إلى مخاطبة مستويي الضائقة اللبنانية هذين، أي الماكرو سياسي المتمثل في الدور الإقليمي لحزب الله، والماكرو اجتماعي الذي يمكن أن نرمز إليه بالنقاش الذي رافق تصدر خبر موت سيدة بعد جراحة تجميلية.
هل كان علي أن أقول لصديقي الكردي: عد إلى الموضوع الجوهري في رصدك للوقائع اللبنانية. فالأرجح أن آكو وهو صحافي ويرأس أكبر وسيلة إعلام كردية في العراق، ضجر من مواظبته على السؤال عن حزب الله فلجأ إلى قانون الانتخاب ليسأل عنه. لكن في مقابل ذلك ربما راودك جراء بحثك في قانون الانتخاب كي تجيب عن سؤاله، شعور بالنعاس لا تريد أن تطرده، النعاس الناجم عن حال النكران الذي تعيشه، وعن انعدام القدرة على التأثير في مستقبلك.
هذا ما يعنيه تماماً أن تعيش في بلد «غير مهم»! أي أن يرافق انشغالك به نعاس غير ناجم عن ارتخاء، بل عن يأس وقناعة بأنك أنت أيضاً كما بلدك، شخص غير مهم ولا تملك زمام مستقبلك.