كان ولا يزال سؤال المستقبل يفرض نفسه على العالم العربي منذ عصر النهضة في القرن التاسع عشر. الغرب انشغل بالسؤال نفسه قبل ذلك بنحو ثلاثة قرون. ولا يزال السؤال يؤرق ذاكرة العالم وخيالاته بأكثر مما كان يفعل منذ القرن السادس عشر. لكنّ هناك فارقاً بين انشغال وآخر. انشغال العالم العربي مثلاً لم يتجاوز كثيراً محاولة طرح السؤال، وإقناع الناس بأهميته، وأهمية التطبيع الثقافي معه. لكنه انشغال ظل في نهاية المطاف مشدوداً بين ما بات يعرف بالحديث والتقليدي، أو الأصالة والمعاصرة. من ناحيته، نجد أن انشغال الغرب انطلق في أساسه من فرضية القطيعة المعرفية، وليس التاريخية مع الماضي، وتخلص بذلك من ارتباك علاقة الحاضر بالماضي.
جاء الربيع العربي ليعيد فرض السؤال مرة أخرى بصيغة وطريقة مختلفتين على الجميع. الناس العاديون، وليس النخبة، هم الذين فرضوا السؤال هذه المرة. حصل هذا في الشارع وليس من منصات النخب الثقافية أو السياسية. كنت قد ذكرت هنا (الحياة، 30 كانون الثاني- يناير، 2011)، أيضاً (26 حزيران- يونيو، 2011) أن الربيع العربي هو في مبتدئه محنة للجمهوريات العربية تحديداً. إلا أنه مع ذلك فرض سؤال المستقبل على الجميع. في هذا الإطار، تفضل صديقي تركي بن عبدالله بن عبدالرحمن آل سعود بإهدائي كتابه «السعودية: الموروث، والمستقبل، والتغيير الذي يعزز البقاء»، الذي صدر العام الماضي عن دار الفرات. كان الأمير تركي قد تحدث معي عن فكرة الكتاب قبل أكثر من سنتين، وتناقشنا حول فكرته كثيراً. وبالتالي فإن التفكير فيه، والإعداد له ثم كتابته وصدوره، كل ذلك حصل في المناخات التي خيمت على المنطقة بفعل الربيع العربي. وبالتالي يندرج الكتاب ضمن الكتابات التي لها علاقة ما، أو تأثرت بتداعيات هذه الموجة. لا يعني هذا بطبيعة الحال أن الربيع كان المهماز الوحيد أو الأهم وراء تأليف الكتاب. فالحقيقة أن تغيرات كبيرة حصلت للسعودية وفيها قبل الربيع بسنوات. ومثل ذلك، حقيقة أن سؤال المستقبل كان مطروحاً في السعودية قبل الربيع بكثير. لكن هذا الربيع يشي بتغير غير مسبوق في البيئة الإقليمية للسعودية، وبالتالي يضاعف من خطورة سؤال المستقبل، وأهمية التعاطي معه من دون تأخير.
مقالتي اليوم ليست استعراضاً للكتاب، بقدر ما أنها مداخلة مع أهم طروحاته. وهي مداخلة بمثابة استمرار لما كان بيني وبين المؤلف من أحاديث قبل تأليف الكتاب وجاهزيته للنشر. عنوان الكتاب يعبّر في شكل مباشر عن مضمونه، وعن رسالة جليلة وطموحة يطمح المؤلف إلى إيصالها للقارئ. فكما أن موروث التجربة السعودية الغنية مرتبط في العنوان بحاضرها ومستقبلها، فإنه كذلك في كل فصل تقريباً من فصول الكتاب. الكلمتان المفتاح في الكتاب هما الموروث، والمستقبل، وهما معاً تشكلان معادلة صحيحة تبعاً لطبيعة العلاقة بينهما. المقصود بالموروث هنا هو الإنجاز الذي أورثه السلف للخلف، والمتمثل أولاً في تحقيق الوحدة والتمسك بها ابتداء من النصف الثاني من القرن 18م وحتى الآن، على رغم صعوبة الظروف وشح الموارد والنكسات التي تميزت بها في شكل خاص مرحلتا التأسيس الأولى والثانية، والنصف الأول من الثالثة. المكون الثاني للموروث هو تطبيق الشريعة، والثالث روح العمل التي عرف بها السعوديون إلى ما قبل الطفرة النفطية. وهذا بالنسبة للمؤلف موروث ضخم يضع على الخلف مسؤولية ضخمة ليس فقط للمحافظة عليه كإنجاز تاريخي، وإنما بالانطلاق منه إلى رحاب المستقبل، والإضافة إليه حتى يصبح موروثاً آخر لأجيال قادمة، أكثر قوة واستقراراً وقابلية للبقاء والاستمرار.
لا يمكن تحقيق ذلك، وفق المؤلف، إلا بمواجهة تحديات مستجدة لمستقبل يختلف عن المستقبل الذي كانت تتطلع إليه الأجيال السابقة. أول هذه التحديات، يقول الأمير، أن «صلابة … الموروث لم تعد كما كانت …». وذلك لأن السعوديين «يعيشون (حالياً) في عصر ولا كل العصور. ويقطنون منطقة اكتنفها من الأحداث ما جعلها اليوم أكثر مناطق العالم اضطراباً وأكبرها أخطاراً» (ص146). التحدي الآخر أن «الأداء الحكومي ليس على مستوى إمكانات الدولة ولا يؤهل لتحقيق طموحات المستقبل». (ص147). والتحدي الثالث يتمثل في الهجوم الذي تتعرض له الشريعة الإسلامية وأنها «لم تعد تغطي بكفاءة تطورات العصر وآثارها» (ص147). أما التحدي الرابع فهو أن «الأنظمة التي تحكم اختيار ولي الأمر تخطاها الزمن ولا بد من مراجعتها، بخاصة لأن ظروفها اختلفت» (ص147).
أمام هذه التحديات وغيرها في الظروف السياسية للمنطقة حالياً، والتقدم العلمي والتكنولوجي وما أحدثه في حياة الناس، يرى المؤلف أن الآليات القديمة في التعامل مع الواقع وما يتطلبه من مواكبة فقدت فاعليتها. يقول أن «أساليب وآليات الحقبة الماضية في التواصل والتحكم مهما كانت ناجحة ومقنعة، فإنها اليوم كليلة وقد تكون عقيمة وعكسية النتائج مع الجيل الحالي» (ص151). ومع ذلك، يتمسك بالمفهوم التقليدي للشريعة كمخرج للتحدي الذي تواجهه. فهي كما يقول ليست فقط «حكم الله على الأرض وتنطبق أحكامها على كل من عاش في ظلها …»، وهذا مفهوم. لكن «تفسيرها والاجتهاد والاستنباط فيها لا تستقيم إلا لمن وهبه الله علماً وحفظاً وممارسة لا تتوافر لكثيرين غيره». والمقصود بالعلم هنا هو حصراً العلم الشرعي بمستنداته الدينية، وليس أي علم آخر لا ينتمي إلى هذا المفهوم. ثم يضيف أن الفقهاء وضعوا «شروطاً وتعريفات لمثل أولئك الذين لهم أن يفعلوا ذلك تشمل صفات لا تتوافر إلا في القليل من المسلمين، بل من العلماء… هؤلاء هم الذين يستطيعون تفسير ما اختلط من مفاهيم فيها (الشريعة)، وليس كل من طلب العلم أو تولى القضاء أن يكون منهم بالضرورة» (ص 207).
لعله من الواضح أن هذا التحديد الحصري لمن يحق له النظر والتدبر في الشريعة مفهوم ومبرر انطلاقاً من مبدأ التخصص. لكنه، من ناحية أخرى، يستند إلى مفهوم تقليدي للشريعة موروث، وبالتالي فحصرية التحديد هنا تعود لحقبة إسلامية قديمة كان الفقه فيها هو العلم (القانوني – التشريعي) الوحيد المتوافر. في عصرنا الحالي اتسع مفهوم العلم في شكل لا يقاس بما كان عليه في تلك الحقبة، ومعه اتسعت مفاهيم التشريع والسياسة والقانون والاقتصاد والمعرفة، وغير ذلك كثير. الآن الطب يتطلب تشريعاً، وكذلك الغذاء والدواء، والاستهلاك، والتجارة، والحكم، والعلاقات بين الدول… الخ. ولكل حقل من هذه الحقول مختصون هم من يعرف طبيعته، وشروطه ومتطلباته. ومع هذا التوسع، اتسع أيضاً مفهوم القانون، وبات هناك قانون مدني (دنيوي) مفصل للتعامل مع دقيق وجليل هذه الحقول المدنية. ألا يتطلب الأمر في هذه الحالة إعادة تعريف الشريعة بما يتوافق مع هذه التحولات التي لا سبيل إلى تجنبها؟ هذه الاستجابة المرنة تحفظ للشريعة موقعها في التركيبة الجديدة، وتفتح مجال اتصالها مع علوم وحقول لم تكن معروفة عندما اتفق على تعريفها قبل نحو ألف ومائتي سنة. أطرح هذا السؤال انطلاقاً من قول المؤلف المشار إليه أعلاه، وهو أن «أساليب وآليات الحقبة الماضية في التواصل والتحكم مهما كانت ناجحة ومقنعة، فإنها اليوم كليلة وقد تكون عقيمة وعكسية النتائج مع الجيل الحالي».
هذا عن التحدي الثاني. ولعل موقفنا من كيفية مواجهته أحد الأسباب التي ساهمت في تشكل التحدي الأول، وهو أن الموروث بات أقل صلابة مما كان عليه. وذلك ربما نتيجة لتزايد وتقادم اتكائنا عليه واستنزافه من دون هوادة. ضاقت المساحة. للحديث بقية.