يخوض مروان البرغوثي ورفاقه الأسرى معركة سياسية كبرى في وجه الاحتلال. إضراب الأسرى عن الطعام، يعيد للسياسة معناها الأخلاقي، الذي من دونه تصير السياسة وحلاً. فالأسرى في وقفتهم الأخلاقية والنضالية يعيدون المعنى إلى المعني، ويكشفون زيفين موحلين يحاولان خنق أرواحنا في المنطقة العربية:
الزيف الأول هو الزيف الإسرائيلي، فإسرائيل تتعرى من أوراق التين التي غطت عنصريتها ووحشيتها. إسرائيل هي دولة احتلال فقط لا غير. كل كلام إسرائيلي آخر صار بلا معنى. فالمستعمرات الاستيطانية التي تنتشر كالسرطان في الضفة الغربية والقدس، والقمع الوحشي المنهجي المنظم الذي يتعرض له الفسطينيون والفلسطينيات ، وواقع الأسرى الفلسطينيين في سجون الاحتلال، والقوانين العنصرية التي لا يملّ الكنيست الإسرائيلي من تمريرها، هي حقيقة إسرائيل، ولا تستطيع الآلة الاعلامية الإسرائيلية مهما امتلكت من ذكاء تفسيرها ضمن أي منطق أخلاقي. هذه دولة استعمارية استيطانية تتصرف كالزعران، لأنها لا تجد من يقف في وجهها. هذه الدولة، التي ادعت عند تأسيسها انها ملجأ اليهود المضطهدين والمهددين، تتحول إلى قلعة يديرها جهاز أحمق ومتغطرس. قلعة تضطهد وتقمع وتحتفل باحتلالها للأرض الفلسطينية. إسرائيل العارية من أي غطاء أخلاقي تجد نفسها حليفة لأبشع اشكال العنصرية اليمينية في الغرب، وصولاً إلى الارتماء في أحضان اللاساميين.
الزيف الثاني هو زيف الأنظمة العربية، وهنا لا نستطيع أن نستثني أحداً، فالتمايز بين هذه الأنظمة، ومن ضمنها النظامان الفلسطينيان هو في الدرجة وليس في النوع.
الأنظمة العربية التي فبركت اسطورة ان هدف حرب حزيران / يونيو 1967 كان إسقاط الأنظمة العربية «التقدمية»، حولت الهزيمة الأكبر في تاريخ العرب الحديث إلى انتصار وهمي. لقد انتصرنا: أرضنا احتلت، وكرامتنا انتهكت، وشعبنا ديس بالأقدام، لكننا لم ننهزم، لأن سلطة طواغيت العسكر وضباط المخابرات لم تسقط! هكذا تحول النظام إلى طوطم للعبادة. وبعد موت ناصر، تصرف الصغار بصفتهم كباراً. من صدام حسين وجنون العظمة إلى الأسدين في سوريا وهوسهما بتدمير المدن وصولا إلى العقيد الليبي الذي أعلن نفسه ملكاً لملوك افريقيا. وتم استبدال النموذج الناصري بالنموذج الكوري الشمالي!
وعمّت ثقافة الكاز والغاز، التي تسللت من ثقوب الهزيمة، ووجدت شرعيتها في الحرب الباردة و»المجاهدين الأفغان»، فطفا إسلام الأصولية التكفيرية على النفط، وأغرق العالم العربي في أتون «حرب الحضارات»، التي تحولت إلى حروب لتدمير الذات. هنا التقى الاستبداد العسكري بالاستبداد الأصولي، ونجحا معاً في تدمير المشرق العربي.
هذه الأنظمة التي قادت المنطقة إلى السقوط من جديد في براثن الاحتلال المباشر، نجحت في تبييض إسرائيل. فبعد الكيماوي الصدامي والأسدي، وبعد البراميل التي دمرت المدن السورية، وبعد التطهير السكاني الذي يجري في سوريا في صفقات مشبوهة تفوح منها روائح البترو- دولار الكريهة، وبعد تحويل نصف سكان سوريا إلى لاجئين، صار وزير الدفاع الإسرائيلي استاذاً للأخلاق، وصارت العنصرية الإسرائيلية إطاراً للتفوق «الانساني» على انظمة الانحطاط العربية. ووصل الأمر إلى حد التحالف شبه المعلن بين هذه الأنظمة وإسرائيل من أجل مواجهة الخطر الإيراني!
في مواجهة هذين الزيفين، يعلن ألف وأربعمئة أسير في السجون الإسرائيلية الاضراب عن الطعام، كي يعيدوا تصويب المعاني، معيدين لفلسطين فكرتها بصفتها نضالاً سياسياً وأخلاقياً من أجل الحق والحقيقة.
يختزن هؤلاء المناضلون في ضمائرهم ووجدانهم فكرة فلسطين. فلسطين ليست سلطة أو أجهزة أمنية تقمع الشعب، أو نظاماً عربياً آخر ينحني للاحتلال، أو حفلة مساومات وتنازلات لن توصل إلى شيء.
فلسطين قضية سياسية واخلاقية كبرى، انها الأرض التي تمتحن القيم الانسانية، وهذا يرتّب على الفلسطينيات والفلسطينيين في الوطن المحتل والمنافي مسؤوليات جسيمة لا يحق لهم التخلي عنها. الشعب الفلسطيني، في صراعه من أجل البقاء، واجه ويواجه الهول، لكنه يعلم أنه لا خيار له. خياره الوحيد هو الصمود والمواجهة، وهذا يعني الخروج نهائياً من أسر الوهم والوهن، فلا التسوية مع محتل يريد اجتثاثك ممكنة، ولا تأسيس سلطة تابعة تعفيك من مواجهة الهاوية، ولا بناء إمارة إسلامية توحي بأنها وريث للسلطة تستطيع أن تحمي الوجود.
خيار الفلسطينيات والفلسطينيين الوحيد هو المقاومة التي تتخذ أشكالاً متعددة بحسب متطلبات المرحلة وموازين القوى. كل أشكال المقاومة شرعية، واللجوء إلى أحدها في مرحلة معينة لا يعني الغاء الأشكال الأخرى.
صرخة الأسرى تعلن اليوم مقاومتها بالاضراب عن الطعام، وشباب فلسطين اعلنوا مقاومتهم بالأمس بانتفاضة السكاكين، والمقاومة الشعبية للجدار قاومت بالتجمعات الشعبية والتظاهرات، كل أشكال المقاومة شرعية، لكن المهم هو أن تستعاد القضية من براثن وهم التسوية مع محتل لا يريد أي تسوية. من هنا يجب العودة إلى الشرعية النضالية في وثيقة الأسرى التي جرى تغييبها ومحو معانيها في الانقسام بين سلطتين غير ديموقراطيتين.
مروان البرغوثي ورفاقه يعلنون زمن الاشتباك، وهم في ذلك يلتقون مع صيحة الحرية المغمسة بدم باسل الأعرج. وفي زمن الاشتباك تستعيد الكلمات دلالاتها، ويخلي المنتفخون بالسلطة والمال والفساد خشبة المسرح الفلسطيني امام اصحاب القضية.
ما يقوم به مروان البرغوثبي ورفاقه اليوم هو أنهم يعيدون لاسم الفدائي ألقه ويحررونه من اللصوص. في العادة يحاول اللصوص سرقة الثورات بعد انتصارها. أما في الحالة الفلسطينية فان اللصوص يسرقون الثورة من أجل منعها من الانتصار واغراقها في الوحل.
فلسطين تعيد بناء اسمها من جديد، فلسطين الأسيرة يقودها الأسرى إلى أبجدية تحررها. إن قدرة فلسطين على استعادة المعنى سوف تكون مؤشراً لأفق عربي نخرج فيه من الهوان والوحل إلى بداية تلمّس أخلاق الحرية.