كنت أتطلع إلى لقاء أبي الوليد رئيس المكتب السياسي لحركة «حماس». حصل ذلك الأسبوع الماضي في الدوحة- قطر، حيث كنت لحضور المنتدى الـ11 لمركز دراسات الجزيرة. في صباح اليوم الثاني للمنتدى (الأحد)، وفي طريقي لحضور الجلسة الأولى، اقترب مني شخص ينقل إلي تحيات خالد مشعل، ويقترح أن ألتقيه. سعدت بالفكرة ورحبت بها. ولأن يوم غد (الإثنين) كان يوم عودتي إلى الرياض، قلت إن اليوم هو الوحيد المتاح للقاء. وهكذا كان.
ما إن جلست في الصالون حتى طلب أحد المعاونَين الاثنين أخذ هاتفي الجوال. تساءلت عن السبب فبادر أبو الوليد إلى القول إن هذا لحمايتي قبل أي شيء آخر، لأن الجوالات الحديثة أصبحت «يا دكتور» أدوات تنصت. قلت: «هذا صحيح»، وسلمت الجوال، وبدأنا مباشرة في حديث امتد من الساعة الثالثة والنصف عصراً حتى السادسة والنصف مساء. بعد دقائق من جلوسنا انتقلنا إلى مائدة الغداء لنعود بعده إلى جلستنا. كان أبو الوليد ممسكاً إلى حد كبير بزمام الحديث. لم يترك مجالاً للسؤال بسبب تدفق حديثه وشموله كل المسائل تقريباً التي كنت أنوي سؤاله عنها. كان يتنقل بين مواضيع حاضرة في ذهنه ويدرك أهميتها للآخرين. من ناحيتي، كنت أريد أن أستمع إلى الرجل في أول لقاء لي معه، مع شيء من التعليق. تحدث عن إقامته في الكويت، وعلاقته بالسعودية، والخلاف بين حماس والسلطة الفلسطينية، وتحديداً «فتح»، وموقف حماس من المبادرة العربية للسلام، خصوصاً الاعتراف بإسرائيل، واتفاق مكة، وأخيراً ما حصل بينه وبين القيادة السورية منذ بداية الثورة في درعا حتى مغادرته دمشق -كما قال- في كانون الثاني (يناير) 2012. في نهاية الحديث أعلن مشعل أنه بعد أسبوعين سيصدر البرنامج السياسي الجديد لحماس، وأن تركه منصبه في الحركة، الذي سبق إعلانه من قبل، سيتزامن مع ذلك.
لن أفعل هنا أكثر من تسجيل ملاحظاتي على اللقاء. أبدأ بعلاقة حماس وفتح، إذ لاحظت من حديث مشعل أن السبب المزمن للانقسامات الفلسطينية لا يزال كما هو. مثلاً حماس مستعدة للانضمام إلى منظمة التحرير شرط أن تتخلى فتح عن تمسكها بالهيمنة على المنظمة، وأن تكون حماس بالتالي (نظراً إلى حجمها) هي العمود الثاني لها، مع فتح. هناك سبب آخر، وهو أن فتح بقيادة محمود عباس ترفض خيار المقاومة المسلحة، وهو ما تتمسك به حماس. ترى قيادة الحركة إمكان الجمع بين التفاوض والمقاومة. وأكثر ما لفت نظري في هذا الصدد مرافعة خالد مشعل لرفض فكرة الاعتراف بإسرائيل في الظروف الحالية. أعاد في حديثنا تأكيد قبول حماس بحدود 1967، وهي خطوة متقدمة، لكنها ترفض الاعتراف بالدولة الإسرائيلية قبل قيام الدولة الفلسطينية. مبرره في ذلك أن مسألة الاعتراف تعود إلى الشعب الفلسطيني، وأنه لا يحق لتنظيم بعينه الانفراد بقرار حول هذه المسألة. منطقياً هذا موقف متسق وسليم. الإشكالية أن الواقع السياسي الفلسطيني والعربي لا يسند هذا الموقف، فمنظمة التحرير اعترفت بإسرائيل وفقاً لاتفاق أوسلو، ولم تشترط في المقابل اعترافاً إسرائيلياً، بل إنها لم تشترط حتى وقف الاستيطان كثمن للاعتراف. ومن ثم فإن قبول منظمة التحرير بوجهة نظر حماس يقتضي سحب الاعتراف، وهو ما يعني سقوط أوسلو. والحقيقة أن استهتار إسرائيل باتفاقات السلام، خصوصاً مع الفلسطينيين، قد يجعل من هذا الخيارَ الوحيد المتبقي لإعادة الأمور إلى نصابها.
عن علاقته وحماس بالسعودية، كرر أبو الوليد إعجابه بـ «الحس العروبي» لكل من الراحل الملك عبد الله بن عبدالعزيز، والملك سلمان بن عبدالعزيز. واللافت في هذا السياق ما قاله عن قبول حماس كل ما جاء في المبادرة العربية للسلام، ما عدا الاعتراف، كما أشرت. صاحب المبادرة الراحل الملك عبدالله لم يكن مرتاحاً لهذا الموقف من حماس، وعلى رغم ذلك لم تتوتر العلاقة معها، وظل الحديث مع مشعل حول هذا الاختلاف وراء الكواليس، بل إن اتفاق مكة حصل عام 2006 في أعقاب الصدام الدامي بين فتح وحماس آنذاك، وبعد أربع سنوات من هذا الاختلاف. وتبين أن إحدى الدول العربية الكبيرة عملت على تعطيل هذا الاتفاق. لكن اختلاف موقف حماس من الاعتراف هو في الواقع اختلاف مع كل الدول العربية التي صادقت على المبادرة في قمة بيروت عام 2002، الأمر الذي يضعها في زاوية سياسية ضيقة، فهل تستطيع تغيير الواقع السياسي بما يفرض تغييراً في رؤى كل الدول العربية ومواقفها؟
من المفارقات التي تدركها حماس في المرحلة الحالية تراجع وهج فكرة المقاومة. وهي مفارقة تؤشر، ضمن مؤشرات أخرى، إلى صعوبة الوضع العربي، وتضاعف تعقيداته بعد الربيع العربي. وهو أمر خبرته حماس مباشرة في دمشق قبل غيرها. المهم أن المقاومة بوصفها خياراً لم تسقط، لكنها باتت في العقود الأخيرة مربَكة بين إيمان راسخ بمشروعيتها وشكوك في جدواها وصدقية من يدّعيها. وهذا عكس ما كان عليه الأمر أيام حركات التحرر من الاستعمار، وبدايات المقاومة الفلسطينية في ستينات القرن الماضي وسبعيناته. أسباب ذلك متعددة، بعضها قديم تراكم مع الزمن، والبعض الآخر استجد وفرضته التطورات، وأهمها ما وصل إليه الربيع العربي، خصوصاً في العراق وسورية. من الأسباب القديمة ضعف إنجازات المقاومة في مقابل خسارات تتراكم في الحقوق والأرض، إضافة إلى الانقسامات الفلسطينية واستعصائها على الحل، وتداخلها مع انقسامات عربية لا تتوقف. كان الانقسام أبرز سمات حركة المقاومة الفلسطينية عندما كانت صبغتها «علمانية»، ولم تتراجع بعدما ظهرت حركتا حماس والجهاد الإسلاميتان.
هناك سبب قديم آخر ظل يتراكم، وهو تباعد الشقة بين خيار المقاومة الفلسطينية المسلحة ومصالح بعض الدول العربية في الصراع العربي- الإسرائيلي. تتعلق الإشكالية هنا بتباعد يتنامى بين منطق المقاومة مع منطق «الدولة» في سياق علاقات عربية- عربية، بما في ذلك العربية- الفلسطينية. المفارقة أن هذا يكشف كيف أصبح البعد العربي عبئاً على القضية الفلسطينية، في الوقت الذي باتت هذه القضية عبئاً على بعض العرب. قارن لاءات قمة الخرطوم في أعقاب هزيمة حزيران (يونيو) مع نصوص اتفاق كامب ديفيد بين مصر وإسرائيل بعد حوالى عشر سنوات من تلك القمة، وما أعقب ذلك من تحولات في مواقف كثير من الدول العربية من الصراع برمته. أيهما تسبب في تخبط الآخر: السياسات العربية أم المقاومة الفلسطينية؟ في هذا السياق، بل قل نتيجةً له، ظهر إلى العلن ادعاء المقاومة لأسباب لا علاقة لها بالمقاومة، وهو ادعاء مدمر تجلى في العراق، ثم في سورية بعد الثورة. أصبح المواطن العربي، والفلسطيني تحديداً، في حيرة من أمره بين مقاومة حقيقية لا تنجِز، ومقاومة مدعاة تدمِّر، وليست معنية بالإنجاز أصلاً بمقدار عنايتها بأهمية الشعار وفائدته.
هنا طرح الموضوع ذاته على الحديث، أو علاقة أبي الوليد وحماس بالنظام السوري بعد اندلاع الثورة. كان مشعل موجوداً في دمشق عندما اندلعت الثورة في درعا. وصول موجة الثورة وما تنطوي عليه من تداعيات كبيرة إلى سورية يهمه، ويهم حماس كثيراً. هو أكد في حديثنا أن النظام السوري كان كريماً مع حماس، وسمح لها بالعمل السياسي، وبتطوير صواريخها -كما يقول- في مصانعه. من هنا عمل مشعل جاهداً على دفع النظام إلى عدم اللجوء إلى الحل الأمني في وجه الثورة، والأخذ بخيار الإصلاح والحل السياسي مبكراً. كان يريد الاحتفاظ بالعلاقة وفي الوقت ذاته كان مع مطالب الشعب، وهنا ظهر المأزق بين الطرفين. يريد النظام من حماس تغطية خياراته الأمنية من دون نقاش، وحماس لا تحتمل الثمن السياسي لذلك. وقد بدا لي، من حديث أبي الوليد وفي ما نشر عن الموضوع منذ سنوات، أن مشعل وبقية قيادة الحركة كانوا مدركين حجم الثمن الذي كان ينتظره النظام السوري منهم. كان يريد الإمساك بالورقة الفلسطينية في لعبته السياسية في الشام قبل غيرها. ويعرفون أيضاً كيف تعامل النظام قبلهم وقبل الربيع العربي، مع فتح ومع ياسر عرفات في سورية، ثم في لبنان. المهم أن مشعل، وبعد لقاءات مع الأسد وبعض قيادات النظام، ذهب إلى بيروت للاستعانة بالأمين العام لحزب الله حسن نصرالله، الذي أبدى استعداده في هذا الاتجاه. لكن اللافت، كما يبدو لي من سياق الأحداث وليس من حديث مشعل، أنه بعد زيارة نصرالله دمشق تضاعف تمسك النظام بالحل الأمني، وهو ما يوحي بأن نصرالله هو الذي شجعه على المضي في هذا الاتجاه، وليس كما كان يأمل مشعل. لذلك، وبعدما ألقى الرئيس الأسد خطاباً متشدداً في أعقاب زيارة نصرالله، طُلب من مشعل اللقاء مع الأسد، لكن أبا الوليد رفض ذلك تفادياً أن يُفهم منه أنه يصادق على ما جاء في الخطاب، وأنه يقف إلى جانب النظام ضد الثورة. بعدها أدرك مشعل، كما يبدو، أنه بات أمام باب حديدي مغلق، فغادر دمشق في شهر يناير 2012، ولم يعد إليها حتى الآن. السؤال الذي يردده مشعل هو أنه إذا كان النظام السوري وحليفته إيران استفادا من حماس، وهذا صحيح، فلماذا لا يحاول غيرهما الاستفادة أيضاً من العلاقة معها؟ تختفي خلف السؤال حقيقة أن النظامين السوري والإيراني يدعيان المقاومة، ومن هنا تنبع حاجتهما إلى حماس وغيرها. ليست لدى الآخرين حاجة مماثلة إلى حماس، وحاجة حماس إليهم لا تختلف عن حاجتها إلى غيرهم. يفرض هذا الاختلاف في الحاجات والأولويات تفاهماً بين الطرفين. هل يغير ترك مشعل بعد أيام منصب القيادة في حماس شيئاً في علاقتها مع الدول العربية الفاعلة، وفي المعادلة التي تحكمها؟ أم تبقى الأمور على حالها؟