قد لا تكون فكرة هذه المقالة مناسبة لتعليق يومي عابر على أحداث جارية، لكنّها – أي فكرة المقال- أشبه بتداعٍ فكري حرّ أقوم به وأنا أقرأ تقرير الكونغرس الأخير (عن الأردن، المنشور في “الغد” أمس)، الذي يتحدث عن التحديات الكبيرة التي تواجهنا.
التقرير يتحدث عن آلاف الأردنيين المتسربين إلى ساحات القتال في سورية، مروراً بالأزمة الاقتصادية الخانقة واعتمادنا على المساعدات الخارجية (بخاصة الأميركية في الأعوام الأخيرة). ما يعيدنا إلى القصة الرئيسة؛ ضعف قدرة العجلة الاقتصادية الداخلية على توفير فرصة الاعتماد على الذات، مع ارتفاع كلفة الجانب العسكري في بيئة محيطة متوترة، منذ عقود، ومتفككة منذ الربيع العربي، بالإضافة طبعاً إلى القضية الفلسطينية، التي هي في جزء كبير من أبعادها متزاوجة مع “الاجتماع السياسي” والسياسة الخارجية الأردنية!
تلك المقدّمات هي فقط للإشارة للظل الثقيل جداً، للعامل الجغرافي- السياسي (الجيوبوليتيك) على السياسات الأردنية، سواء كانت داخلية أم خارجية، وعلى خيارات الأردن الاستراتيجية، وعلى اقتصاده الوطني، وعلى أوضاعه الداخلية، ودور الجيش والأمن، وسؤال الديمقراطية والإصلاح، والعلاقة مع الجوار ومع القوى الكبرى، وفي الجوار إسرائيل الحاضر- الغائب دوماً.
الجيوبوليتيك ساهم في البنية السكانية، وفي تشكّل الدولة وفي ترسيم معالم تطورها الاقتصادي، وفي تصميم محدّدات الإصلاحات السياسية. وهو عامل مهم وأساسي في فهم السياسات الأردنية، لكن مع ذلك عندما يتحدث الأردنيون في السياسة، ولمّا تقدّم الأحزاب السياسية خطابها السياسي تتجاوز هذا العامل، أو تتجاهله، وربما تقفز من فوقه، أو تأخذه من منظور أيديولوجي سطحي (في إطار الخطابات القومية والإسلامية)، لا كمتغيّر مهم في فهم السياسات الأردنية وتحليلها!
يغيب أحد أهم العوامل المهمة في التفسير والتحليل والفهم، لذلك نجد الأردنيين سياسياً محلّقين في عالم من الرغبات السياسية والأمنيات والخطابات الفلكية المفارقة لواقع سياسي مغاير تماماً. وربما المفارقة أنّ الشعب الأردني هو من أكثر الشعوب العربية تطلّعاً إلى ما يحدث في الخارج والمنطقة، فهو مشدود لأحداث سورية ومصر، ولصدام حسين سابقاً في العراق، وجمال عبد الناصر، أكثر مما هو مرتبط – في كثير من الأحيان- بقضايا داخلية يومية تمس حياته الاقتصادية والتنموية ومستقبله الشخصي، وحتى المجتمعي.
وعندما نتساءل ماذا يريد الأردنيون؟ لا نضع الجيوبوليتيك أمامنا، سواء على صعيد الإمكانيات والإنماط الاقتصادية، بين اقتصاد رعوي وآخر خاص صاعد، أو التركيبة السكانية، أو الشروط الخارجية للسياسات الداخلية والخارجية. وعلى الأغلب فإنّنا نربط أغلب تفاصيل حياتنا بالسياسة، حتى في بحث الشباب عن فرص عمل، أو في نقاشنا القضايا الخدماتية التي من المفترض أنّها مسؤولية الهيئات المحلية، أو حتى في التفكير في طرق سدّ عجز الموازنة ومواجهة المديونية المتنامية!
بيت القصيد؛ بالرغم من هذه الأهمية الكبرى لجيوبوليتيك الأردن، بما يؤثّر عميقاً وجوهرياً في تشكيل شخصية الدولة، وشخصية المجتمع، وحتى الفرد الأردني، فإنّنا لا نجد دراسات معمّقة في السياسة والاقتصاد والاجتماع عن هذا العامل المحوري!
ربما لو وجدت هذه الدراسات لساعدتنا على فهم أنفسنا، والممكن والمطلوب، ولربما ساعدتنا تلك الدراسات على فهم بعض الأسباب التي دفعت بآلاف الشباب الأردني إلى أحضان داعش والنصرة، وقبل ذلك إلى العراق وسورية، وساحات القتال؛ أقول “بعض” الأسباب، فالجغرافيا المحيطة لعبت دوراً في تشكيل هوية نسبة من الشباب الأردني وأحلامهم وهواجسهم، والأحداث الجارية تساهم في صياغة ثقافتهم وردود أفعالهم!