لم تكن قمة عمّان هذا الأسبوع تاريخية على نسق قمة الخرطوم عام 1976 التي تبنت «اللاءات الثلاث» – لا مفاوضات ولا صلح ولا اعتراف بإسرائيل – ولا على مستوى ما أصدرته قمة بيروت عام 2002 عبر «المبادرة العربية للسلام» مع إسرائيل التي أوضحت الاستعداد العربي للاعتراف بإسرائيل في إطار قيام دولة فلسطين إلى جانبها ضمن حدود إلغاء الاحتلال الذي حدث عام 1967.
لم يصدر عن قمة عمّان أي جديد في كيفية معالجة النزاع الفلسطيني – الإسرائيلي أو أية أفكار إما تتفاعل إيجاباً مع الاهتمام الأميركي بهذا الملف، أو تقطع الطريق على «التلاعب» و «الحلول الموقتة» عبر الصيغ الغامضة التي أشار إليها الرئيس الفلسطيني محمود عباس. فلقد احتفت قمة عمان باستعادة قضية فلسطين أهميتها المحورية في الوجدان العربي، لكنها لم تخرج – علناً على الأقل – بالأطر التي سيحملها الملك عبدالله الثاني إلى واشنطن للاستفادة من انفتاح الرئيس دونالد ترامب على إيجاد تسوية للنزاع بواقعية عملية. قمة «الوفاق والاتفاق» التي عقدت في البحر الميت تعمّدت احتواء الخلافات العربية، لكنها لم تتمكن من منع انسحاب الوفد المصري من القاعة عندما تحدث أمير قطر الشيخ تميم بن حمد آل ثاني بصورة بعثت رسالة غير مستحبة إلى الدول الخليجية، إذ قال مسؤول خليجي إن «قطر ليست دولة مكشوفة وهي عضو في مجلس التعاون الخليجي».
اللقاء بين العاهل السعودي الملك سلمان بن عبدالعزيز والرئيس المصري عبدالفتاح السيسي استطاع ضبط العلاقة على رغم الاختلافات في شأن اليمن، حيث لا دور لمصر هناك، وفي الشأن السوري حيث الموقف المصري أكثر توافقاً مع الموقفين الروسي والإيراني إلى جانب النظام في دمشق.
البارز في سياق الوفاق والاتفاق حدث على صعيد العلاقات السعودية – العراقية في اللقاء بين الملك سلمان ورئيس الوزراء العراقي حيدر العبادي، لأنه أطلق فصلاً جديداً وجيداً في العلاقات الثنائية المهمة في بعدها الداخلي في العراق، كما في أبعاد الأدوار الإيرانية والتركية والسورية والروسية والأميركية نحو العراق، أمام ازدياد الوجود الأميركي وتطوّر الحوادث لمصلحة الأكراد. التوافق التام وقع على عنوان الإرهاب وإبلاغ واشنطن وموسكو وكل العواصم الأوروبية والآسيوية والأفريقية أن العرب أجمعوا على مكافحة الإرهاب بكل الوسائل المتاحة وبالشراكة مع كل الدول التي تحارب الإرهاب. إيران أيضاً وضعت محاربة الإرهاب عنواناً أساسياً عندما قام الرئيس حسن روحاني بزيارة موسكو والتقى لثلاث ساعات بالرئيس الروسي فلاديمير بوتين. إنما إيران في بيانات القمة العربية في عمّان لم تكن شريكاً إقليمياً، بل كانت محط هجوم بسبب تدخلها في الدول العربية ومحط اتهام بقيامها بالتحريض الطائفي في المنطقة – عكس البيان الختامي الذي صدر عن القمة الخليجية في البحرين في كانون الأول (ديسمبر) الماضي، الذي حُذِفت منه هذه التعابير مع تكليف أمير الكويت الشيخ صباح الأحمد الصباح بإجراء حوار مع إيران نيابة عن الدول الخليجية، وهكذا حدث على أعلى المستويات بعدما حمل وزير خارجية الكويت رسالة إلى طهران تدعو إلى الحوار وجاء القبول عبر زيارة الرئيس روحاني إلى الكويت تبعه بحث وزراء الخارجية الخليجيين هذا الأسبوع في الرياض مسألة الحوار مع إيران بهدف تطبيع العلاقات في إطار حسن الجوار.
ما تجنبته قمة عمّان شمل واقع التقسيم والتجزئة والشرذمة الذي يحدق بدول عربية عدة. لم يجرؤ القادة على تناول هذا الأمر الواقع، لا من ناحية إمكانية حصوله بلا عودة، ولا من ناحية إمكان منع حصوله عبر استراتيجيات واضحة. كذلك الأمر في ما يتعلق بتسويات تتم علناً على أساس التهجير الطائفي المدروس والمتفق عليه جهراً، فلقد تم دفن الرؤوس في الرمال وكأن الأمر عادي.
لعل الشيخ الصباح الأحمد الصباح كان بين القلة الصريحة في التشخيص والوصفة. قال إن ما يسمى «الربيع العربي» الذي أتى إلى المنطقة قبل سبع سنوات «أطاح بأمن أشقائنا واستقرارهم وعطّل النمو والتنمية» في البلاد العربية، داعياً الدول العربية إلى «الترفع عن الخلافات… لئلا تترك مجالاً لمن يحاول التربص بأمتنا». مساعي أمير الكويت مع إيران أتت باسم دول مجلس التعاون الخليجي وهي تهدف إلى إقامة حوار استراتيجي يؤدي بالتأكيد، إذا نجح، إلى حلحلة كبيرة في الحروب الملتهبة، بالذات في سورية والعراق واليمن، وسيؤثر في مستقبل دول مثل لبنان. مجرد انتهاء القمة الخليجية قبل ستة أشهر بتكليف رسمي لأمير الكويت باستنباض آفاق التحاور والتطبيع مع إيران كان أكثر عملياً من نبرة القمة العربية التي افتقدت المرونة.
الأمين العام لجامعة الدول العربية أحمد أبو الغيط أيضاً كان صريحاً عندما قال: نحن نتابع عن كثب الأزمة السورية من دون وسيلة حقيقية للتدخل مع أطراف أخرى فاعلة تتصدى لصياغة مستقبل سورية، ومن دون إسهام عربي حقيقي. هذا أمر أجده معيباً، إذ إن واحداً من كل اثنين من لاجئي العالم اليوم هو لاجئ عربي. تطرق أبو الغيط إلى أن «أطرافاً إقليمية توظف الطائفية لتقسيم وحدتنا العربية». طالب بضرورة «تحديد رؤيتنا للأولويات» بدلاً من «التباكي على ما كان»، ودعا إلى «التصدي لهذه الفوضى لأنها تمس الرمق الإنساني العربي وحقه في العيش والحياة».
الملك عبدالله الثاني الذي سيترأس القمة العربية لسنة طالب «بأخذ زمام المبادرة» من أجل «وضع حلول تاريخية لتحديات متجذرة، ما يجنبنا التدخلات الخارجية في شؤوننا»، بدءاً «التوافق على أهدافنا ومصالحنا الأساسية». الأولوية الأولى التي حددها العاهل الأردني في سلم التحديات التي تواجه العرب هي «الإرهاب الذي يهددنا، من العرب والمسلمين، أكثر مما يهدد غيرنا». ودعا إلى «تكامل الجهود بين دولنا والعالم لمواجهة هذا الخطر من خلال نهج شمولي». ثاني التحديات، قال، هو إسرائيل والتوسع في الاستيطان وإيجاد سلام قائم على حل عادل وشامل للقضية الفلسطينية. الثالث هو التحدي السوري حيث الأمل العربي هو بعمليتي آستانة وجنيف لإطلاق عملية سياسية تحفظ «سلامة أراضي سورية». التحديات الأخرى هي الأمن والاستقرار في العراق واليمن وليبيا، وكذلك تحدي ملف اللاجئين. وهذه هي التحديات التي سيحملها الملك عبدالله إلى واشنطن في أعقاب زيارة السيسي العاصمة الأميركية الأسبوع المقبل.
أولويات السيسي في واشنطن، إلى جانب إبراز الشراكة في محاربة الإرهاب، ستكون ثنائية بامتياز. مصر فرحة بإعادة عقارب العلاقة الأميركية – المصرية إلى ما قبل باراك أوباما، والرئيس السيسي جاهز لتلبية الرئيس ترامب إلى إقصى الحدود لأنه يرى في ذلك نقلة استراتيجية في العلاقات الأميركية – المصرية. ما يريده السيسي من ترامب أسهل مما قد يريده ترامب من السيسي. الرئيس المصري يريد الاستثمار والمال والتكنولوجيا والترابط الإستراتيجي واعتبار «الإخوان المسلمين» إرهابيين في نظر ترامب – وكل ذلك وارد. الرئيس الأميركي يريد من مصر إخراج المسألة الفلسطينية من الأولويات العربية وتهميش المبادرة العربية – وهذا فوق طاقة السيسي.
الموضوع اليمني لا يهم الرئيس المصري ولن يكون محورياً في محادثاته مع الرئيس الأميركي. في الموضوع السوري، قد يحاول السيسي التأثير في ترامب لجهة توطيد الاتجاه نحو القبول بالرئيس بشار الأسد في السلطة على أساس أن «انتشار الإرهاب يضعف كيان الدولة الوطنية» كما قال، وأن الأولوية هي الآن للحفاظ على كيان الدولة السورية.
في المسألة السورية، تتوافق مواقف الرئيس المصري مع مواقف الرئيس الروسي ما عدا بعدها الإيراني مع ان القاسم المشترك بين مواقف الدول الثلاث هو استمرار الأسد في السلطة، أقله في هذه الفترة. المؤشرات الآتية من واشنطن تفيد بأن ترامب لا يعارض ذلك كلياً مع أن سفيرته لدى الأمم المتحدة نيكي هايلي صنّفت الأسد وإيران هذا الأسبوع بأنهما «عقبتان كبيرتان» أمام التقدم نحو مستقبل سورية.
أثناء الزيارة الرسمية الأولى لرئيس إيراني لموسكو، تحدث بوتين عن «دفع جديد لشراكة استراتيجية في التعاون الثنائي» وشمل البيان المشترك أولوية التصدي للإرهاب والأولوية السورية. وأعلن الرئيسان التوافق على تسوية الأزمة السورية وأبرزا أن روسيا وإيران وتركيا هي الدول الضامنة لوقف النار. قد تكون هناك خلافات تكتيكية أو تنافس بين الدورين الروسي والإيراني في سورية، كما يقال، إنما واقعياً، ليس هناك دليل على تباعد استراتيجي بين البلدين، بل إن توطيد الشراكة الإستراتيجية ما زال مشروعاً مشتركاً قائماً.
روسيا كانت حريصة على التواجد في القمة العربية عبر مبعوثها الرفيع إلى الشرق الأوسط، ميخائيل بوغدانوف، كما من خلال برقية الرئيس فلاديمير بوتين للقمة التي أعرب فيها عن استعداد موسكو للمساهمة في تسوية النزاعات الإقليمية وترسيخ الهدنة في سورية ومكافحة التنظيمات الإرهابية بزيادة التعاون مع جامعة الدول العربية. قال أيضاً إن روسيا جاهزة للمساهمة في «إعمار المناطق المتضررة بعد تسوية النزاعات».
الرئيس اللبناني ميشال عون، خاطب القمة العربية معرباً عن استعداده للقيام بدور لمد الجسور بين دول المنطقة مشيراً إلى أن لبنان لم تصله شرارة النار المشتعلة حوله، لكنه يتلقى نتائجها وينوء تحت حملها، وهو الآن يستضيف لاجئين سوريين وفلسطينيين «ما يوازي نصف عدد سكانه، والأرقام في ارتفاع». لبنان غاب عن القمة العربية كملف بارز لكن تمثيله في وفد واحد ضم عون ورئيس الوزراء سعد الحريري أبرز السعي وراء التوافق والوفاق. ثم إن لقاء عون بالملك سلمان ثم مغادرة سعد الحريري القمة إلى الرياض على متن طائرة الملك سلمان كانا مؤشرين إيجابيين للبنان في القمة العربية.
في أول حضور له أمام القادة العرب بوصفه أميناً عاماً للأمم المحدة، ركز أنطونيو غوتيريش على مصير اللاجئين وضرورة اغاثتهم داعياً إلى إنهاء القتال في سورية ومتعهداً بـ «العمل معاً» من أجل «الخروج من دائرة العنف والنزاع في اليمن ولييبا». تحدث عن «الجرح المفتوح» في المنطقة في إشارة إلى وضع الشعب الفلسطيني معترفاً «بفشل المجتمع الدولي لوقت طويل جداً في تأمين الطرق والدعم لحل عادل ودائم لقضية فلسطين». قال إن «من يظن أن الوضع يمكن إدارته مخطئ، لأن الإسرائيليين والفلسطينيين لا يحتاجون إلى إدارة النزاع، بل إلى حله»، ودعا إلى «وقف كل الخطوات الأحادية التي تقوّض حل الدولتين، وهو ما ينطبق تحديداً على النشاطات الاستيطانية غير القانونية».
لعل ما قاله غوتيريش وتطابق مع ما قاله الكثير من القادة العرب هو بيت القصيد. فقد اعتبر أن «الانقسامات في العالم العربي فتحت الباب أمام التدخلات الخارجية وزعزعة الاستقرار والانقسامات الطائفية والإرهاب»، وقال إن «الوحدة في هذه الأوقات حاسمة».