ضمن واقع الحال، وفي ضوء الانهيارات الملموسة الكبيرة في النظام الرسمي العربي، وهشاشة الأمن القومي، وانفجار الطائفية والخلافات البينية والحروب الداخلية وتفكك الدول والمجتمعات والاستقطابات الداخلية، على الأولويات والملفات الساخنة، وتضارب الأجندات الخارجية العربية، كل تلك المتغيرات من الضروري أن يتم اعتبارها والتفكير فيها عندما نقيّم نتائج قمة عمان، وما أنجرته أمس.
لا نتوقع أن نصحو الآن على يوم عربي جديد، بل هو يوم عربي آخر، كباقي الأيام السابقة، ولم يعد هنالك من يؤمن بالخطابات العنترية (التي غابت عن القمة) ولا بأسلوب دغدغة العواطف، فالمواطنون أصبحوا يدركون تماماً أنّ هذا الواقع مرتبط بديناميكيات وأسباب، وأن التغيير يتطلب شروطاً مختلفة غير متوافرة اليوم.
لكن ما حققته قمة عمان، ضمن سقف توقعات واقعي، أكثر من أمر مهم، فالأول أنّها برّدت من الخلافات الحامية بين أكثر من دولة عربية، وخففت من حّدة التوترات بينها، وقام الأردن ديبلوماسياً، عبر جهود الملك شخصياً، بتهيئة أجواء للقاءات “التبريد” بين مصر والسعودية، وحوارات التنسيق بين الأردن ومصر والسلطة الفلسطينية، فلم تنفجر الخلافات العربية في وجوهنا.
وكانت هنالك جهود ديبلوماسية متميزة ملحوظة لوزير الخارجية الجديد أيمن الصفدي، الذي أثبت حضوراً وتألقا في التحضير للقمة، بالرغم من أنّه استلم حقيبة الخارجية قبل مدة قصيرة جداً، لكنّه أمسك بزمام الأمور على خير ما يرام، وقام بدور فعال في بناء التوافقات والتفاهمات في اجتماعات وزراء الخارجية وفي تجنب حقول الألغام هنا وهناك.
ممّا حققته القمة، ولعب الأردن دوراً كبيراً في ذلك، أنّها أعادت الاهتمام للقضية الفلسطينية، ورمّمت الموقف العربي خلف الفلسطينيين، وعزّزت من أوراقهم في لحظة تاريخية حرجة مع الإدارة الأميركية الجديدة، التي تبدي توجهات مقلقة تجاه القدس والقضية الفلسطينية، ونلمس من التصريحات الصادرة عن مسؤولي الإدارة أن التعامل معها فلسطينياً وأردنياً وعربياً، سيكون صعباً للغاية فيما يتعلق بملف القضية الفلسطينية.
تبددت بعض الهواجس من مقترحات وأفكار لتغيير مبادرة السلام العربية، تحت عناوين التكتيك والترطيب ورمي الكرة في ملعب الآخر، فصدرت عن المسؤولين الفلسطينيين، بما في ذلك الرئيس محمود عباس، تصريحات تؤكد نفي هذه الهواجس، وهي مواقف فلسطينية رسمية كانت مدعومة أردنياً بصلابة من وراء الكواليس.
أردنياً المكاسب كبيرة جداً، فالأردن نجح بامتياز في اجتياز محطة القمة، وحقق أهدافه نسبياً، سواء في جمع العرب، تبريد الخلافات الداخلية، وإعادة القضية الفلسطينية إلى الموقع المهم، والتأكيد على الثوابت الفلسطينية فيما يخص حل الدولتين والقدس، وإعطاء العرب ورقة مهمة في النقاش مع الرئيس الأميركي دونالد ترامب، خلال اللقاءات المرتقبة على التوالي للزعماء العرب معه خلال الأسابيع القليلة القادمة (في شهر نيسان).
فوق هذا وذاك أثبتت الديبلوماسية الأردنية قوتها وقدراتها، وعززت القمة من قيمة الأردن الاستراتيجية عربياً، بوصفه دولة معتدلة، ثابتة راسخة، تجمع العرب وتعقد القمم، وتحظى بثقة دولية وإقليمية، بالرغم من أنّها محاطة بالحرائق والأعاصير من حولها وفي جوارها.
زادت القمة من ثقة مؤسسة الحكم بنفسها وقدراتها، ومن احترام الشعب للدولة لما رأوه من تنظيم وإعداد، وجدية واجتهاد ونظام خلال الأيام الماضية، وهذه من المكاسب المعنوية التي غيرت قليلاً في مزاج الشارع، بالرغم من وطأة الأزمة الاقتصادية عليه.