لم يكن غريباً أن يصدر تقرير دولي عن التمييز العنصري البشع الذي تمارسه اسرائيل بشكل ممنهج ضد الفلسطينيين،على غرار ما كان يجري في جنوب افريقيا ضد الأفارقة. بل أن العنصرية الإسرائيلية اسوأ من ذلك، لأنها تهدف إستراتيجيا إلى تهجير الشعب الفلسطيني، و ابتلاع أرضه، والغاء وطنه . و لكن المهم صدور التقرير عن الاسكوا، وهي احدى منظمات الأمم المتحدة العريقة. و مع هذا سارعت الدوائر الصهيونية و القيادات الإسرائيلية و على رأسها عدو الفلسطينيين الأشد حقدا و مكرا، و هو نتنياهو، إلى إنكار العنصرية الإسرائيلية، و استنكار صدور التقرير.
فإذا كانت القوانين العنصرية التي تصدرها إسرائيل منذ عام 1952 حتى اليوم، ومصادرة الاراضي، واقتلاع الاشجار وهدم المنازل، واقامة الجدران، وإغلاق المدارس وقتل الابرياء على الشبهة، واسقاط الشباب، والاعتقالات التعسفية للأطفال والنساء والشيوخ والمرضى،وحصار 2 مليون نسمة في قطاع غزة، ومنعهم من السفر والعلاج والعمل،ومن استيراد البضائع التي يحتاجونها للغذاء والمأوى، وغير ذلك الكثير.. اذا لم يكن كل ذلك ليس تمييزاً عنصرياً،حسب رؤية الإسرائيليين وحسب اخلاقياتهم، و قيمهم.. فما هو التمييز العنصري..؟؟
إن تقرير الاسكوا في جوهره تقرير قانوني غير سياسي. أنه تقييم وتحليل لما تقوم به اسرائيل تجاه الفلسطينيين من منظور القانون الدولي والانساني. لقد عرف نظام روما الاساسي للمحكمة الجنائية الدولية جريمة الفصل العنصري بأنها «تلك الأفعال اللاانسانية التي ترتكب في سياق مؤسسي يقوم على الاضطهاد الممنهج والسيطرة الممنهجة من مجموعة عرقية (أو دينية) تجاه مجموعة أخرى. فهل هناك عمل تقوم به اسرائيل ازاء الفلسطينيين لا ينسجم مع هذا التعريف؟
واذا كانت المقولات الصهيونية، والتي سبق وأن صنفتها الأمم المتحدة على أنها عنصرية، والسياسات الاسرائيلية تقوم على تجريد اصحاب الارض من أرضهم، بل وطمس هويتهم، وسرقة تاريخهم ومحو آثارهم، وادعاء أن المواقع المقدسة لهم،فأي عنصرية أشد من هذه العنصرية؟ والواقع أننا اذا استثنينا معسكرات الاعتقال الجماعية، وغرف الإعدام بالغاز، لا يتبقى أي فرق بين ما تفعله اسرائيل،وبين ما كان يفعله النازي في اليهود أنفسهم.
لم يكن تقرير الاسكوا الذي ضغطت الولايات المتحدة الامريكية على الأمين العام الجديد ليسحبه، هو الأول الذي يصف سياسات وممارسات اسرائيل بالعنصرية. فهناك العديد من التقارير والمؤلفات التي صدرت خلال العقود الماضية،تفضح الفلسفة العنصرية التي تمثلتها القيادات الصهيونية والسياسات الاسرائيلية منذ بداية القرن العشرين وحتى اليوم. ولعل من أشهر هذه المؤلفات وأهمها كتاب الرئيس الامريكي السابق جيمي كارتر عام 2006 والذي حمل عنوان «فلسطين: السلام وليس التمييز العنصري الابرثايد» وكان الكتاب من الكتب الأعلى مبيعاً في الولايات المتحدة الامريكية. وعلى الرغم من دبلوماسيته العالية، واستعماله للعبارات بعناية شديدة،فإن وضع عبارة التمييز العنصري في عنوان كتاب يتحدث عن فلسطين فيه اشارة دامغة إلى ما تقوم به اسرائيل. يشير كارتر على التحديد: إلى أن اسرائيل قد «احتلت» الاراضي الفلسطينية و «صادرت» و»استعمرت» المئات من «المواقع». كما يشير إلى «حرمان» الفلسطينيين من «بيوتهم» و»اماكن عبادتهم» إضافة إلى «التمييز القسري بين الفلسطينيين والاسرائيليين» .اما الجدار، فيصفه «بالافعواني»، ويهدف إلى «تمزيق الاراضي الفلسطينية» وحماية المستعمرات الاسرائيلية. لم يقتصر الامر على كارتر، بل أن القاضي ريتشارد جونسون في تقريره عام 2008 – 2009 حول حصار غزة وما سبقها من حرب اجرامية اقرب إلى حرب الابادة ضد المدنيين، وكذلك تقرير القس ديزموند توتو، وغيرهما الكثير، ادانوا إسرائيل بالتمييز العنصري وبالتفريق في التعامل بين الاسرائيلي والفلسطيني. لقد قسمت اسرائيل الفلسطينيين إلى 4 فئات هي فلسطينيو الـ48، والقدس الشرقية، والضفة الغربية،وغزة. وكل فئة تحكمها قوانين وتعليمات مختلفة،تقوم كلها على السيطرة والتحكم، وتضع الفلسطيني في منزلة دنيا مقابل الاسرائيلي.. و مع هذا، فإن الضجة التي افتعلها نتنياهو و ليبرمان، والضغط الامريكي على الأمم المتحدة،لا يمكن أن يخفي الحقائق على مستوى العالم.
وهذا يتطلب من الجانب العربي القيام بمتابعة تقرير الاسكوا في الاطار التالي: أولاً: تشكيل فريق قانوني دائم يتابع و يرصد الاعمال والاجراءات اليومية التي تقوم بها اسرائيل ويصنف تلك الاعمال من منظور قانوني، وتحت اي باب تقع، ويصدر فيها تقارير نصف سنوية. ثانياً: وضع «دليل» أو قاموس للاعمال والاجراءات والقوانين اللاإنسانية والعنصرية، وتلك المخالفة للقانون الدولي والانساني، التي تمارسها اسرائيل ضد الفلسطينيين .ثالثاً: ترجمة تقرير الإسكوا و الوثائق الأخرى إلى اللغات الاوروبية والآسيوية إضافة إلى العربية والانجليزية ووضع الترجمات على شبكة الانترنت ومواقع التواصل الاجتماعي.رابعا :أن يعتبر موقف الدكتورة ريما خلف الأخلاقي و الإنساني المشرف، بداية لبرنامج عمل جديد،و ليس نهاية المطاف للتغني و الإشادة .
و أخيرا، آن للإسرائيليين الذين يعيشون الهواجس والخوف من المستقبل بسبب عدوانية «دولتهم»و عنصريتها و نازيتها تجاه الفلسطينيين، أن يدركوا أنهم على طريق مسدود. وآن للعلماء والمفكرين و قادة الرأي منهم أن يعترفوا أن مستقبل الاحتلال والعنصرية والاستعمار إلى زوال،كما زالت النازية والاستعمار والأبرثايد . فهل يصلون إلى هذه الحالة قبل فوات الأوان ؟ تلك هي المسألة.