وحدهم جنود الجيش العراقي في الموصل غير مدرجين على حسابات الجبهة. فأن يُقتل عنصر من «داعش» فهذا نصر تحصيه الحكومة كل يوم، وأن يُقتل مدني فهذا جزء من فظاعات الحرب. الجنود الأميركيون معقمون حيال الموت هناك، وهم يقيمون في صومعات المحاور محصنين من احتمالات الإصابة، فيما طائراتهم تتولى تغطية دقيقة لتحركاتهم.
الإقامة لأيام على محاور القتال تدفعك للتساؤل عن الجنود في هذه الحرب. الجنود هم الوقود الفعليون لـ «انتصارات» تُسجل كل مساء في بيانات وزارة الدفاع. تقول الوزارة كل يومٍ: قتلنا هذا العدد من عناصر «داعش»، وتقدمنا في هذه الأحياء، وأجلينا هذا العدد من المدنيين، وقتل الإرهابيون هذا العدد من المدنيين… لكن لا أحد يُحصي قتلى الجيش.
يقول لك ضابط صغير في الجيش: «لقد دفعنا أثماناً غالية لقاء استعادة هذه الحديقة من يد التنظيم». عليك أن تسمع وتصمت، ذاك أن الحرب هنا يسودها صمت رهيب أيضاً. الوقائع الفعلية تجري خلف الجدار الذي تحتمي به من القناص. وصوت الانفجار الذي دوى الآن هو سيارة مفخخة ربما استهدفت جنوداً يحاولون التقدم نحو مسجد الخضر الذي تلوح مئذنته من فوق الجدار الذي يفصلك عن خط القتال الأول.
لا أحد يُحصي عدد القتلى من الجنود هنا. لا بيانات تنعيهم. و «داعش» الذي فجر نحو 800 سيارة مفخخة على خطوط القتال في الأشهر الثلاثة المنصرمة، إنما يستهدف قتل الجنود بذلك، لا إحداث تغييرات على خطوط الجبهة. «داعش» مقاتل يائس في هذه الحرب. الموصل اليمنى مقفلة عليه، وهو لا يطمح إلى التقدم مجدداً.
تقديرات الخسائر من الجنود هائلة. لكن ذلك يبقى غير محدد بأرقام. الانتحاريون يتربصون على مفترقات يتقدم الجنود الصغار باتجاهها. الجنود القتلى مجهولون لنا، تماماً كما المنفذون من عناصر التنظيم.
ثمة شيء غير عادل في هذه الحرب، على رغم أن العدو فيها هو الشيطان نفسه. ثمة منتصر هو غير هؤلاء الجنود الصغار المندفعين لقتال مسخ ولد في الجوار المذهبي. الأوصاف القليلة التي يُطلقونها على عدوهم، وهو عدو العالم كله أيضاً، لا تكفي لأي استنتاج. فقد جاء الجنود من محافظات العراق البعيدة إلى هنا ليموت منهم كثيرون، والناجون لن يكونوا من المنتصرين، ذاك أن النصر يجب أن يحمل إليهم شيئاً إلى بلادهم التي أتوا منها، وهذا لن يتحقق، وهم يدركون ذلك ويقولونه. فقد قال جندي منهم إن قرار حصار عناصر «داعش» في أحياء الموصل القديمة، وعدم ترك خط انسحاب لهم، يعني أن الحرب طويلة وأننا أمام عدو لا خيار أمامه سوى الموت، وسنكون شركاءه في هذا الموت.
الجنود الصغار يُمضون أوقاتاً من اللهو خلف خط القتال تماماً. يأنسون لزوارهم من الصحافيين، ويصمتون حيال أسئلة عن توقعات الأيام المقبلة. يشيرون إلى جنود ماتوا قبل أيام، أما عدوهم فلا يحفظون له وجهاً، ولا يعرفون عنه سوى أنه على وشك أن ينفجر بهم.
الأسلحة الحديثة بين أيديهم لا تكفي لشعورهم بالثقة، والجنود الأميركيون لا يبادلونهم الثقة. تقارير «هيومن رايتس ووتش» و «آمنستي» عن انتهاكات يمارسها «الحشد الشعبي» الشيعي، بحق مواطنين سنّة في محيط الموصل، لا تشمل مناطق عمل هؤلاء الجنود المتمركزين على تخوم المدينة القديمة. من جهة لا سكان هنا لتشملهم الممارسات، ومن جهة أخرى يبدو أن الجيش، على رغم الغلبة المذهبية فيه، تمكن من النأي بنفسه عن هذه الانتهاكات، لكن ذلك رشحه للاقتراب من موقع الضحية أيضاً. فوجه المعركة الأهلي مع «داعش» يتقدم على وجهها السياسي والأخلاقي، و «الحشد» يمكنه أن يحتفل بالانتصار وأن يجعله جزءاً من زهو الطائفة بنفسها، بينما هؤلاء الجنود ينفذون مهمة سيعودون بعدها إلى الأحياء الفقيرة من المدن التي قدموا منها.
الفارق ليس كبيراً بينهم وبين عناصر ميليشيات الحشد. الفارق يصنعه لباسهم وأسماء وحداتهم التي زينت ستراتهم، من نوع «الرد السريع» و «الفرقة الذهبية» و «الشرطة الاتحادية»، لكن الجيش فرض على جنوده صمتاً رهيباً رافقته حيرة لا يمكن تصريفها في حرب لها وجه أهلي. وما يُضاعف من غرابة المشهد على هذه الجبهة، الجنود الأميركيون الحذرون وغير المنفرجي الوجه، إذ كيف يقود هؤلاء جنوداً، لا يحبونهم ومرتابين بهم، إلى تقدم على الجبهة وإلى نصر.
يسمي الجنود طائرات «الدرونز» الصغيرة والمفخخة التي ترسلها «داعش» لتنفجر فيهم، «المسيرات»، ويطلقون عليها رصاصاً لا يصيبها، ويقولون إن الأميركيون يملكون برامج لإسقاطها لكنهم لا يفعلون ذلك إذا ما كانت «الدرونز» تحلق بعيدة عن نقاط تمركزهم. يشعرون أن الأميركيين يخوضون معركة أخرى غير معركتهم، ويشعرون أيضاً أن قرار حصار الموصل من كل الجهات اتخذه قادة إيرانيون، وهم في هذه الحرب أضعف من حلفائهم من الشرق ومن الغرب، لكنهم مستجيبون لشروطهم ومنقادون خلفها.
قُتل آلاف منهم في هذه الحرب، ولم يُقتل أميركي واحد ولا إيراني واحد حتى الآن. أعداؤهم يُقتلون ويحصيهم الجيش كل يوم، والناجون من المدنيين المتسربين من وراء المباني المدمرة، ثمة من يُراقب حُسن استقبالهم ونقلهم إلى المخيمات.
هم جنود غير منتصرين في جيش منتصر، وهم ضحاياها أيضاً، وليسوا «شهداءها»، وهم جزء من شريحة لطالما أشاحت بلدان الحروب الأهلية بوجهها عنها، فالقتيل منها ليس ضحية، ذاك أنه مقاتل فيها، وهو ليس «شهيداً» طالما أن صمتاً يُضرب حول مقتله، وطالما أن النصر يفرض إغفال حقيقة الخسائر. الجنائز تُرسل إلى المدن، ووحدهم الأمهات والأبناء من يبكون ومن يشعرون بأن خسارة وقعت، فيما الآخرون يسجلون انتصارات فوق مدن خربة، ويمنعوننا من أن نُحصي قتلانا.
خطوات قليلة إلى الأمام على الجبهة وينكشف أمامك مشهد مشابه. «داعش» أيضاً لا يُحصي قتلاه، وهو لا يفعل ذلك على نحو أفدح، ذاك أنه يفخخهم ويُفنيهم ليغيب أي أثر لهم. يأتي اتصال هاتفي للأهل يقول صاحبه: «ابنكم شهيد إن شاء الله»، وتكون النهاية غير متوّجة بجثة. على هذا النحو نحن ماضون نحو مستقبلنا.