في عقائد الأديان السماوية، ليس الله كلي القدرة فقط، بل هو القدرة ذاتها، وهو الذي يحتاج خلقه إلى حمايته، وليس بحاجة إلى حماية أحد منهم، لا سيما أن الله، عز وعلا، ليس في متناول أيديهم، وهم غير مكلفين بحمايته، بدلالة قول القرآن الكريم: “إن الله غني عن العباد”، كما أنه لا يفوّض أحدا بمعاقبة من يرتكبون معصيةً أو يكفرون، وهو الذي قال بلغة الوحي الإلهي القاطعة: من شاء فليؤمن، ومن شاء فليكفر؟ لو كان الله بحاجةٍ إلى حماية من الكفر، لجعل الكفر ممنوعا والإيمان عاما، بالمعنى السامي الذي يقوم على غرس الإيمان في قلب كل إنسان، حتى قبل ولادته، فلا يعرف الكفر إليه سبيلا، فتنتفي، في الوقت نفسه، الحاجة إلى الأنبياء والرسل.
تريد هذه المقدمة الرد على تبرير الإجراء الذي قام به “جيش الإسلام” ضد مواقع إعلامية وإغاثية وتربوية وحقوقية في غوطة دمشق، بسبب مقالة كتبها أحد الأغرار، ونشرتها مجلة “طلعنا عالحرية”، تحدث فيها عما سماه “استبداد الله والدولة والأب”، في سياق فذلكة سطحية، لا علاقة لها بما أصاب الطفل الذي بترت ساقاه ببرميل متفجر، وإنما كرّسها لدور الأب في إنقاذ ابنه الذي قال له، وقد فقد ساقيه: “شيلني يا بابا”.
وقد اعتذرت المجلة لأهالي الغوطة، وأصدرت رئيسة تحريرها بيانا اعتذرت فيه، وحملت نفسها المسؤولية عن الخطأ الذي وقع في نشر المقالة. كما استقالت نائبتها، واستقال كبير محرّريها، قبل إعلان هؤلاء وقف إصدار المجلة، إلى أن يبت القضاء (الشرعي طبعا) في القضية التي أكدوا أنه لا علاقة للمؤسسات الأخرى التي تم إغلاقها بمجلتهم أو بالمقالة. إذا كان كاتب المقالة قد “أهان الله”، أليس الاعتقاد بقدرة مخلوق على إهانة الله ضرباً من إنكار تسامي الله عن خلقه، وبالتالي كفرا صريحا؟ ماذا فعل مكتب توثيق الجرائم الخاصة بانتهاك حياة وحقوق الإنسان في الغوطة؟ وبماذا أخطأت الهيئة التي تعالج أطفال الغوطة من عقابيل الحرب المرعبة على نفسياتهم؟ وأي ذنبٍ جنت المكاتب والهيئات الأخرى التي تمد الأهالي بالعون، وتحظى باحترامهم وعرفانهم؟
انتهز جيش الإسلام الفرصة، ليقضي على أي أثر لأي عمل مؤسسي مدني في الغوطة، أما السبب فيفسره وضع التنظيمات المتعسكرة/ المتمذهبة، بعد هزيمتها المشينة في حلب، وما أعقبها من تمرد شعبي عليها في كل مكان، بدا أنه يتيح الفرص لاستنهاض الحراك المدني/ السلمي، وخصوصا منه الشبابي، من جديد. لذلك، بادر “جيش الإسلام” في الغوطة، ثم سارعت جبهة النصرة إلى وأد هذا الاحتمال في مهده، قبل تعاظم حضوره وتوطده من جديد بديلاً للجنون المتعسكر/ المتمذهب الذي لم يخدم أحدا غير النظام، ودمر الثورة وأوصلها إلى حافة الفشل. لهذا السبب، ولسبب آخر أتحدث عنه بعد قليل، أغلق مكتب التوثيق، لوضع حد لقصة المختطفين الأربعة، رزان زيتونة وسميرة الخليل وناظم حمادي ووائل حماده، التي زعم دوما براءته منها، علما أن إخفاءهم تم لمنعهم من توثيق الجرائم المرتكبة ضد أهالي الغوطة، وخصوصا منها التي ارتكبتها أجهزة الجيش الأمنية، وهي كثيرة وفظيعة، كجرائم مخابرات الأسد، بل هي أشد فظاعة منها، لأنها ترتكب باسم الثورة التي قامت من أجل حرية السوريين. لماذا أذكّر من جديد بمن لن ننساهم، وطالبنا دوما بالكشف عن مصيرهم، ليس فقط لأنهم من مفجري الثورة والمدافعين عن حياة السوريين وحقوقهم، وإنما قبل هذا وذاك لأنهم جرح غائر في ضمير كل من يطالب بالحرية، أو يلهج باسمها من السوريات والسوريين، ولأن مصيرهم ككوكبة حرة كرست حياتها للدفاع عن كل سورية وسوري، صار رمزيا بالنسبة لمصيرنا، أفراداً وشعباً، ولمصير وطننا نفسه، ولأن جرم اختطافهم أعقبه جرم أشد فظاعة هو إخفاؤهم، باسم الدفاع عن الثورة، فعن أي ثورة وحرية تتحدثون، إذا كنتم تضطهدون الغوطة الشرقية باسم الثورة، وتختطفون وتخفون رموزها، على الرغم من أنهم كانوا عزّلا وتحت سلطتكم، وأنجزوا عملا نبيلا كان يجب أن يوضع سلاحكم في خدمته، بدل أن يختطف ويخفي القائمين به؟
لن نصدّق بعد اليوم ما كان يقال عن براءة “جيش الإسلام” من الجريمة ضد رموز حريتنا وثورتنا الأربعة، بعد أن تبين، في الأيام القليلة الماضية، أن حربه تشمل أيضا مخالفيه في الرأي من الثوار وطلاب الحرية. ولا يتذرعن أحد بعد اليوم بالدفاع عن الدين والله، فالله في غنى عن هؤلاء، وإذا لم يكن هناك من يدافع عن الدين غير “جيش الإسلام” وأتباعه، لوجب علينا الاعتراف بأن مدّعي الدفاع عن الله هم الذين يعتدون عليه من خلال الاعتداء على خلقه، ولو كان الله بحاجة إلى حماية هؤلاء، لما كان هو الله الذي نؤمن به، ولكان بلا حماية! لن نقبل أيضا أن يتجلبب أحد بعد اليوم بالدين ليغطي جرائمه، وينتهك حقوق السوريات والسوريين، ويعتدي على حياتهم، كما فعل “جيش الإسلام” مع المختطفين الأربعة، ويفعل اليوم مع محرّري مجلة “طلعنا عالحرية”. وسنطالب “جيش الإسلام” برفع يده الثقيلة من الآن فصاعدا عن الغوطة وأهلها، وسنجعل احترامه للحرية معيارا لشرعية سلاحه الذي يجب أن يوجه إلى النظام حصرا، كي لا يعتدي على الدين، ويقلل من قيمة الله وقدرته، كي يسكت من يزعجه وجودهم بين أهليهم في الغوطة، فيختطفهم ويخفيهم. هناك على الصفحة الداخلية لمجلة “طلعنا عالحرية” أحد أسباب تدابير “جيش الإسلام” القمعية ضد مؤسسات الغوطة، إنها صور المختطفين الأربعة التي تطالب المجلة بحريتهم، في حين أغلق مكتب التوثيق، كي لا يواصل ما انقطع من عمل رزان وسميرة ووائل وناظم ضد المجرمين الذين ينتهكون حقوق البشر ويقضون عليهم.
أوقفوا الأسدية في “جيش الإسلام”، أخرجوا المختطفين من سجونها، دافعوا عن حقهم وحقكم في الحرية، كي لا تختطفوا أنتم أيضا. لا تصدّقوا أن كبت حرياتكم هو شرط الانتصار على النظام، إنه شرط هزيمتكم. إذا سكتم عن ضياع حريتكم، أي ثورة تبقى لكم، وأي فارق يبقى بين جيش الإسلام وجيش النظام الأسدي؟