كان من البديهي أن تنهمر الإشادات بالموقف الشجاع والأخلاقي والنبيل، الذي عبرت عنه ريما خلف في استقالتها من منصبها كمديرة تنفيذية للإسكوا، بعدما طلب منها الأمين العام للأمم المتحدة سحب التقرير الممتاز الذي كتبه ريتشارد فولك وفرجينيا تلي بعنوان: «ممارسات إسرائيل تجاه الشعب الفلسطيني ومسألة الفصل العنصري (الابارتايد)»، الذي صدر عن الإسكوا في 15 آذار/ مارس الجاري.
بتواضع العلماء وكبرياء المضطَهدين، قرأت خلف نص كتاب استقالتها معلنة ايمانها بأن «قول كلمة الحق في وجه جائر متسلط، ليس حقاً للناس فحسب، بل هو واجب عليهم». واستطاعت خلف في موقفها البسيط والمباشر تذكيرنا بواجبات المثقف، في قول الحق دائمًا والدفاع عن الحقيقة مهما كان الثمن. وهي في اصرارها على تبني تقرير أعده أكاديميان كبيران مدافعان عن حقوق الانسان، قدمت نموذجاً للمثقف الذي يقوده التزامه الأخلاقي إلى الاشتباك مع قوى الظلم والظلام، حسب الشهيد باسل الأعرج.
تقرير الإسكوا، الذي سُحب عن موقع المنظمة الدولية الالكتروني، بقرار من الأمين العام للأمم المتحدة، صار ملكاً لكل الناس في العالم، ومن واجب الجميع درسه وتحليله وتعميمه، واستخدامه كأداة نضالية في المعركة ضد عنصرية إسرائيل وممارساتها الوحشية ضد الشعب الفلسطيني.
لكن السؤال الكبير الذي علينا الإجابة عنه، لا يتعلق بخطاب ادانة إسرائيل، وهو خطاب تتشدق به الأنظمة العربية، انه سؤال عن مواقف الدول العربية الأعضاء في «لجنة الأمم المتحدة الاقتصادية والاجتماعية لغرب آسيا» (الإسكوا)، من قرار الأمين العام سحب التقرير، ومن قرار الأمينة التنفيذية ريما خلف الاستقالة. هنا يبدأ السؤال الحقيقي الذي يضع على المحك كل الخطاب العربي الرسمي الذي التبست فيه المعاني، وصارت ممارسة تحالف مضمر مع إسرائيل احد عناوينه الكبرى المسكوت عنها.
وإذا كان تقرير الإسكوا وموقف خلف يصفعان الخطاب الإسرائيلي عبر كشف حقيقيته العنصرية، فإنهما يصفعان أيضاً الخطاب العربي الرسمي ليس فقط عبر وضعه على محك الموقف الفعلي من الاحتلال الإسرائيلي، بل أيضاً واساساً عبر سؤاله عن الواقع الملموس الذي تعيشه الشعوب العربية، في ظل استبداد وحشي، يستخدم كل اشكال التمييز ضد المواطنين وينتهك حقوق الانسان بشكل مستمر وثابت.
تحدثت خلف في كتاب استقالتها عن طوفان الكوارث في المنطقة: «أهل هذه المنطقة يمرون بمرحلة من المعاناة والألم غير مسبوقة في تاريخهم الحديث؛ وإن طوفان الكوارث الذي يعمهم اليوم لم يكن إلا نتيجة لسيل من المظالم، تم التغاضي عنها، أو التغطية عليها، أو المساهمة المعلنة فيها من قبل حكومات ذات هيمنة وتجبر، من المنطقة ومن خارجها».
في هذه النقطة بالذات تجد استقالة خلف مبررها وتعلن ضرورتها. صحيح ان التقرير لا يعالج سوى الاضطهاد الذي يتعرض له الشعب الفلسطيني، لكن القارئ لا يستطيع ألا يرى الهول العربي بأسره: من الجريمة الكبرى التي ترتكب في سوريا إلى مآسي العراق واليمن، وصولاً إلى انتهاك الانسان الفرد وانتهاك حقوق المرأة في ممالك الملح العربية.
كي نضع هذا التقرير في سياقه يجب العودة إلى تقرير «الظلم في العالم العربي والطريق إلى العدل»، الذي أعدته الإسكوا في كانون الثاني/يناير 2017 ومنع نشره بقرار من الأمين العام للأمم المتحدة، بسبب ضغوط كبيرة مارستها دول عربية متنفذة بالاشتراك مع إسرائيل.
يجب قراءة التقريرين معاً، فهما متكاملان. التقرير عن نظام الفصل العنصري الإسرائيلي الذي منع منذ أيام، هو الجزء المكمل لتقرير الظلم في العالم العربي. إذ لا يمكن فهم الظلام الذي يعمّ المنطقة من دون العودة إلى جذره الأول المتمثل في الاحتلال الإسرائيلي. فهذا الاحتلال ما كان له أن يستمر ويستشري بل ويصير مدرسة للقامعين العرب، لو لم يكن العالم العربي يعيش اختناقاً سببه ظلم الأنظمة واستبدادها وخنقها للحريات العامة، وتسعيرها للطائفية.
منع نشر تقرير «الظلم في العالم العربي»، كان المقدمة التي بررت قرار سحب التقرير الجديد. فإذا كان يحق للأنظمة العربية الاستبدادية أن تمنع صدور تقرير يدينها، وإذا كانت تجد نفسها متحالفة مع إسرائيل في منع ذلك التقرير، فلمإذا لا يكون من حق إسرائيل والولايات المتحدة فرض سحب التقرير الجديد من التداول؟ ولمإذا لا تتغاضى أنظمة الزمن العربي المنقلب عن ذلك، بل وتتواطأ معه؟
استنتاجات التقرير الأول واضحة وبسيطة، فبعد اشارتها إلى أن أغلبية الدول العربية ابتليت بالاستبداد والفساد وتهميش الصالح العام، وبعد تأكيدها على ضرورة وأد الفتنة الطائفية، فإنها تدعو إلى «عقد اجتماعي جديد يحقق قدراً من العدل في العالم العربي». وهي تمهد لاستنتاجات التقرير الثاني التي تدعو إلى اعتبار الفصل العنصري الإسرائيلي في فلسطين جرائم ضد الانسانية، وتطالب بإحالة إسرائيل إلى محكمة الجنايات الدولية وتدعم حركة المقاطعة.
اشارت ريما خلف في كتاب استقالتها إلى منع تقريرين خلال أقل من شهرين، وكانت إشارة هذه المثقفة اللامعة كافية كي تعلن أن العالم العربي يواجه مشكلة واحدة ذات بعدين متكاملين، الاحتلال الإسرائيلي والظلم في العالم العربي، وكل محاولة للفصل بين هذين البعدين، سوف تفاقم من عجز المجتمعات العربية عن الخروج من دوائر الموت التي تحاصرها.
من الضروري اليوم نشر التقريرين في كتاب واحد، ففي هذه الأيام الصعبة على الثقافة والمعرفة العلمية واجب التأسيس لأفق جديد يخرجنا من دوامة المآسي المستمرة منذ سبعين عاماً.
تحية إلى ريما خلف ورفاقها الذين أعدوا التقريرين، وشكراً لصفعة الاستقالة في وجه القمع والمنع.