تمر هذه الأيام الذكرى السنوية السادسة لانطلاق أهم ثورة شعبية عربية ضد الظلم والفساد والاستبداد، بدأها يافعون سوريون بعفوية، حين كتبوا على جدران مدرستهم في درعا “أجاك الدور يا دكتور”، وذلك تحت تأثير الثورة في كل من تونس ومصر، فكانت تلك الواقعة الصغيرة بمثابة شرارة اشعلت حريقاً كبيراً، ما تزال نيرانه تلتهم الشجر والحجر والبشر، دون توقف ولو ليوم واحد، ومن غير ان تلوح في الافق القريب بوادر على انطفاء هذا الحريق في المدى المنظور.
قبل عام مضى، وفي هذه المناسبة بعينها، كتبتُ مقالاً في “الغد” تحت عنوان “على أعتاب سنة سورية سادسة” كان مليئاً بالتشاؤم حول مآلات هذه الثورة، التي حوّلها العناد والغرور وحب الذات الى تمرد مسلح شامل، وزادها التدخل الخارجي اشتعالاً، بل ونفخ فيها روحاً لم تخطر على بال احد من قبل، حين تقاطر “المجاهدون” من كل الاصقاع، وقابلهم الطائفيون بالحديد والنار، فبدت الثورة كحرب اهلية، تتعمق مع الوقت، ويشتد اوارها بفعل كل هؤلاء الطارئين.
ومع ان كثيراً من الدماء سُفحت بدون حساب، وتتابعت مظاهر الدمار والتهجير والانهيارات على كل صعيد، وجرت تطورات لا حصر لها في الميدانين السياسي والعسكري، الا ان المشهد الذي كان سائداً في العام السابق، ظل على حاله طوال العام اللاحق، ان لم نقل انه ازداد تعقيداً، وتفاقم اكثر فأكثر، جراء دخول العديد من القوى، بصورة اكثر فظاعة، على خشبة حلبة المصارعة الدامية، الامر الذي انتج مشهداً اكثر سيريالية مما كان عليه في السنوات الخمس السابقة.
ذلك ان البلد الذي استقطب كل هؤلاء المقاتلين من مختلف انحاء العالم، لم يعد قائماً الا على الخرائط القديمة، وفي الذاكرة الغضة، فقد تبددت الارض شذر مذر، وضاعت السيادة، ولم يتبق من النظام الا هياكل فارغة من كل مضمون، فيما تعبت الناس، وعم الخراب والفقر واليأس والارهاب، الى الحد الذي يمكن معه القول ان الكارثة السورية تجاوزت مصائب النكبة الفلسطينية، وتعدت نطاق المأساة العراقية، بل وأين منها الملهاة الليبية والتراجيديا اليمنية، رغم كل ما تزخران به من آلام.
ففي مقالي المشار اليه آنفاً، بدت صورة الوضع السوري الرهيب، كما كانت عليه قبل عام، وها هي اليوم ذات الصورة التي كانت تبعث على التطيّر الشديد، حيث ظل الوضع يسير من سيئ الى أسوأ، ويفيض بالمجازر والاستعصاءات والمراوغات، وينذر بمزيد من الويلات، الى الحد الذي باتت فيه سورية، بأسرها، وفق ما شخّصها المفوض السامي لحقوق الانسان، الامير زيد بن رعد، عبارة عن “غرفة تعذيب”، وأنها الكارثة الأسوأ من صنع البشر منذ الحرب العالمية الثانية.
لقد كان مرور كل هذه السنوات الطافحات بالدماء والعذابات، كافية لإعادة اجراء المراجعات وتبديل الرهانات، ووقف سياسة البراميل والتجويع والاعتقالات والقتل بالمجان، الا ان حالة الانكار التام، وعماء البصيرة، والتشبث بالكرسي مهما كان الثمن، افضت الى الانجراف وراء وهم حسم الموقف بالقوة العسكرية المجردة، واللعب على عنصر الوقت، وهو من دم ودموع، والاستقواء بالميليشيات، والتضحية بكل القيم والاعتبارات دفاعاً عن استمرار حكم الطائفة، او قل حكم العائلة.
بكلام آخر، لم يعد هناك مع بداية السنة السابعة، ما يستحق كل هذا الاقتتال، بعد ان دخلت سورية في الثقب الاسود، فضاعت وضاعت معها مقومات بلد فقد وزنه ومكانته، وخسر صورته وجيشه ومجتمعه واقتصاده، الامر الذي يعني انه لم يعد بمقدور بقايا النظام، ومعه ميليشيات ايران والقوى “الفضائية الجوية الروسية”، اعادة احياء رميم العظام، او اعادة عقارب الساعة الى الوراء، بعد ان خرج الوضع كله عن نطاق التحكم والسيطرة، وبات من المستحيل هزيمة ارادة شعبية شبت عن الطوق واجتازت نقطة اللاعودة.
كثيراً ما يود المحلل السياسي ان يكون على خطأ، اذا كانت مقارباته تنذر بما هو اسوأ مما يتراءى للجميع، غير ان كل الافتراضات المتشائمة، المتعلقة بالكارثة السورية، تحقق نفسها بنفسها مع الاسف، وتتجاوز احياناُ اكثر التوقعات الموغلة في التحسب مما يلوح في الآفاق، الامر الذي يحمل على القول؛ ان الليل السوري الطويل ما يزال طويلاً بعد.