خلال وجودنا – لغايات بحثية- أول من أمس في محكمة أمن الدولة، التقيت بقضاة ومحامين، وشاهدنا جزءاً مقلقاً من التداعيات الاجتماعية المحزنة والمأساوية التي تصيب آلاف العائلات الأردنية، في كثير من الأحيان.
أحد المحامين، متمرّس في قضايا الجنايات الكبرى، التقيته هناك، وكان يتحدث عما وصفه بالارتفاع الفلكي في عدد هذه القضايا، في الفترة الراهنة، مقارنةً بسنوات سابقة. وتحدث لي عما يراه في قضايا المخدرات من مآسٍ كبيرة ومفجعة لعائلات وأسر، وبسبب الجوكر، الذي انتشر مؤخراً، مثل النار في الهشيم، بين طلاب مدارس وجامعات وابتليت به كثير من العائلات!
وفقاً لتقديرات (غير رسمية) هنالك اليوم آلاف القضايا المنظورة أمام محكمة أمن الدولة، النسبة العظمى منها مرتبطة بالمخدرات، ونسبة قليلة (وإن كانت مقلقة) متعلّقة بالإرهاب، وتحديداً الترويج والولاء لتنظيم “داعش”، وفي الأغلب الأعم المتورطون في هذه القضايا هم في سنّ الشباب!
يضاف إلى تلك النسبة مئات الشباب الذين التحقوا بتنظيمي داعش والنصرة في سورية والعراق، خلال الأعوام القليلة الماضية، وتقدّرهم مصادر رسمية بألف حالياً (بعد وفاة العشرات)، فيما تقدّرهم أوساط التيار السلفي الجهادي بما يزيد على 2500 مقاتل، أما تقديرات دولية وغربية فتتحدث عن رقم يقع بين 1500-2500، أي أنّنا في كل الحالات نتحدث عن أعداد كبيرة مقارنة بعدد السكّان.
ربما يبدو السؤال مكروراً ومجترّاً هنا عمّا يحدث لدى نسبة من شبابنا، لماذا ينزلق الآلاف منهم إلى المخدرات والإرهاب والتطرف وحتى العنف الجامعي والمجتمعي، ولماذا تنتكس نسبة منهم إلى الولاءات العصابية المغلوطة للدين ويبتعدون عن الاعتدال والوسطية؟ ولماذا يحوّلون العشائرية من وعاء اجتماعي تضامني إلى عصبية وولاء أولي خاطئ؟
قرأنا وسمعنا وعايشنا مؤتمرات عديدة عن هذا الموضوع؛ الحديث عن البطالة، والفقر، عن تراجع المسار الديمقراطي، عن ضعف وهشاشة الحياة الحزبية والسياسية، عن انكسار قيم التعليم الجامعي وانعكاس تأثير البيئة الجامعية، عن تدهور التعليم الحكومي العام، عن غياب الأنشطة السابقة التي كانت تميّز التربية والتعليم في الأردن، مثل المسرح والموسيقى والفنون والمسابقات اللامنهجية.. الخ.
إذا كان هنالك سؤال: ضع دائرة حول الإجابة الصحيحة، فإنّ الخيار سيكون “كل ما ذُكر”. لكن إن كان السؤال عن السبب الأكثر أهمية أو المسبب الأول، فإنّنا بحاجة إلى تفكير عميق، وإلى إعادة تنخيل وتوزين الفرضيات السابقة، لنصل إلى ما يمكن أن يعتبر “رأس الخيط” في حالة الضياع والتيه لدى هذه النسبة المعتبرة والمقلقة من الشباب الأردني، ولما نشاهده مؤخراً من تفكك السلطة الأخلاقية في المجتمع، مثل قضايا الانتحار وبعض جرائم القتل المأساوية التي قرأنا عنها مؤخراً!
بالطبع لا أريد أن أقفز إلى جواب، وأدّعي امتلاك ما لا يملكه الآخرون، ولا مصادرة النقاش المعمّق المطلوب بين المتخصصين وفي أوساطنا الإعلامية والثقافية، لكن أريد إضافة فرضية أخرى إلى ما سبق وتوسيع محيط الرؤية والانتقال من الاعتبارات الاجتماعية والفردية الضيقة إلى إطار الدولة، وقدرة الدولة ونخبها المثقفة والسياسية على بناء رؤية وفلسفة وحلم يضع معالم الطريق أمام الشباب الأردني، ويفتح أمامهم أفقاً حقيقياً للمستقبل.
الفرضية التي أضيفها، بالرغم من أوضاعنا المريحة مقارنة بما يحدث حولنا، هي أنّ الدولة عاجزة عن بناء الرؤية، وهنالك فقر في النخب القادرة على بناء النموذج البديل للانهيار، وتحوّل الحكومات إلى مجموعة من التكنوقراط والموظفين العاجزين المحبطين، الذين تجدهم يتعرقلون بأي مشكلة صغيرة، فكيف سيوجّهون جيلاً كاملاً، وكما قيل “فاقد الشيء لا يعطيه”..
وللحديث بقية..