تعتبر فنلندا من أكثر الدول في العالم تقدماً وتميزاً في التربية والتعليم؛ قفزت بسرعة قياسية لتتربع على عرش التصنيفات الدولية في المنافسات العالمية التي تقيس مستوى المدارس في الدول، وتجاوزت دولاً كبيرة ومتميزة في هذا المجال.
المفارقة في الأمر أنّ الفنلنديين لا يتوقفون لحظة عن التفكير في التعليم وفي سبل تطويره، وكسر القواعد التقليدية التي أصبحت تابوهات في كثير من الدول. إذ تم إلغاء الواجبات المدرسية والتركيز على الخبرات العملية للطلبة في مرحلة سابقة، ثم أعلن مؤخراً عن “عهد جديد” ينتهي فيه تدريس بعض المواد العلمية المعروفة، مثل الرياضيات والفيزياء والكيمياء، بوصفها علوماً نظرية بحتة، واستبدالها بعلوم أخرى، مثل الاتحاد الأوروبي (الذي يتحدث عن دول الاتحاد الأوروبي ويتطرق إلى تاريخها وثقافاتها وفلسفتها…)، والكافيه (الذي يدمج العلوم الرياضية والإدارية والثقافية في مساق متكامل). وهكذا تمضي التجربة الفنلندية في محاولة التطوير والتحسين المستمرين.
ليس المطلوب استنساخ التجربة الفنلندية، وهو أمر غير ممكن بالمناسبة؛ فالموارد المرصودة للتعليم هناك أعلى بكثير مما نقدمه، وهناك سياقات ثقافية مجتمعية وبيروقراطية متباينة بيننا. لكن من المهم فهم أسرار التجربة الفنلندية والأسباب والشروط التي خلقت هذا النموذج المتقدم، والسير في مسار شبيه في تطوير التعليم وإحداث نقلة نوعية فيه.
المشكلة أنّ كثيرين ممن يتحدثون عن التجربة الفنلندية يتجاهلون أمراً أساسياً، وهو المعلّم الذي يخضع قبل وصوله إلى غرفة الصف إلى مراحل متعددة من الإعداد المعرفي والعملي، ويكون على الأغلب ممن يحملون درجة الماجستير ليس فقط في العلوم التي يدرسها، بل في كيفية تدريسها. وهو ما أوجدنا له تخصصاً في جامعاتنا باسم “معلم صف” (للصفوف الابتدائية)، لكنه تحول في النهاية إلى تخصص هجين غير مفهوم، وأصبح خريجوه ضحايا التخبط في التخطيط، وأصبحت وزارة التربية والتعليم نفسها تتجنب تعيينهم.
ضمن مجموعة الدراسات والتحليلات التي كانت تتم في غرف العصف الفكري في أروقة مؤسسات الدولة، كان التركيز على ما يسمى “المنهج الخفي”، ويقصد به الدور غير المكتوب للمعلم، الذي ينقل ما يؤمن به من أفكار ومواقف إلى التلاميذ بصورة غير مباشرة، لكنها أكثر تأثيراً عليهم من المناهج المدرسية نفسها. ما يعني أن نجاح العملية التعليمية يعود إلى عامل رئيس هو المعلم، ومدى أهليته وقدرته وإيمانه بالرسالة التعليمية وبالمناهج المدرسية التي يدرسها.
التفكير في إنشاء معهد لتدريب المعلمين مهم، لكن من الضروري تطوير الفكرة إلى خلق حوافز مادية ومساعدات لوجستية لهم لإكمال دراساتهم في تخصصات تخدم الرسالة التعليمية من ناحية، ومن ناحية أخرى إشراك نخبة متميزة منهم في الورشة التي تجري حالياً في سبيل تطوير المناهج والكتب المدرسية، كي يؤمنوا هم أولاً بذلك، وينقلوا إلى زملائهم الفلسفات الثاوية وراء مشروع التطوير المنشود.
المسار الآخر في الثورة التعليمية يتمثل في المناهج وفي التفكير خارج الصندوق، بعدم الخشية من تطويرها ونقلها نقلة نوعية تركز على تنمية مهارات الطلبة في التفكير والحياة العملية، وتطوير الفروع التطبيقية وربطها بسوق العمل، وتعزيز الأنشطة اللامنهجية لتصبح جزءاً أساسياً من التقييم، مثل الرياضات والفنون والموسيقى واللغات ومسابقات المطالعة والقراءة الخارجية، وتحرير طلبتنا من الكتب المغلقة وعقلية الحفظ في الغرف الصفية.
تنمية الخيال لدى الطلبة، وتحبيبهم بالمعرفة والتجربة العلمية، وتعزيز روح الفضول لديهم، لكن مثل هذه الخطوات تتطلب أولاً تنمية الخيال لدى المسؤولين في التربية والتعليم ليؤمنوا بأن التغيير ضرورة، ويتوقفوا عن التفكير دوماً في “العصا” التي توضع في الدواليب.