ألقى جنرال أميركي متقاعد، اسمه بول فاليلي، مقرّب من إدارة الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، ويزوّدها بدراسات استراتيجية واستشارية، كلمة في مؤتمر عُقد في موسكو، تناول فيها قضايا الشرق الأوسط، وسورية خصوصا، استهلها بحديثٍ عن محاولات الرئيس السابق، باراك أوباما، لضرب مشروع إدارة ترامب تحسين العلاقات الأميركية/ الروسية، بعد ما أسماه “الفوز الساحق وغير المتوقع” للرئيس الجديد في انتخابات الرئاسة، مثل طرد دبلوماسيين روس، وفرض عقوبات على روسيا، وصولا إلى إقالة مستشار الأمن القومي المعين، مايكل فلين، بعد أقل من ثلاثة أسابيع على توليه منصبه.
يبدو أن الجنرال يتبنى أطروحة مادلين أولبرايت وستيفن هادلي حول افتقار النظم القائمة في منطقتنا إلى الشرعية، باعتباره السبب الذي ينجب الإرهاب، ويرى أن هذه النظم دمرت، بالتعاون مع الإرهاب، المؤسسات الوطنية لبلدان المنطقة ولبلدان أجنبية عديدة، وإن تدخّل بعضنا (روسيا!) المنحاز أدى إلى فوضى عارمة في بلاد الشام بشكل خاص، وفي الشرق الأوسط وأفريقيا الشمالية بشكل عام، ما أنتج لنا، والحديث للجنرال، عشرات آلاف المتطرفين الشيعة العرب الذين يدعمهم الحرس الثوري الإيراني في العراق وسورية ولبنان، فضلا عن عشرات آلاف المتطرفين الذين جنّدتهم إيران من شيعة باكستان وأفغانستان، الأمر الذي حتّم ظهور المتطرفين والمتشددين من أهل السنة، لمواجهة هذا التدخل الإيراني غير المسؤول، الذي يسعى إلى إعادة رسم الخرائط من جديد عبر التلاعب بدول المنطقة وشعوبها، وإعادة رسم خريطة سايكس/ بيكو. وليس ما يجري اليوم من حرب ودمار في سورية غير شاهد على ذلك”.
بعد هذه المقدمة التي ترى أن الثورات شرعية، لأنها ضد نظم فاقدة للشرعية، يقول الجنرال إن ظهور المتطرفين الشيعة الذين يريدون إعادة رسم خرائط المنطقة بدعم إيراني، هو الذي أدى إلى ظهور التطرّف السني، وخصوصا في سورية، حيث “وصلت الجرائم التي يرتكبها نظام الأسد إلى الحد الذي لا يقبله أي إنسان يمتلك شيئا من الرحمة والإنسانية، وصار لدينا اليوم أكثر من مليون قتيل سوري، سقطوا فداء حقوقهم المشروعة التي سلبها منهم النظام، على مدى خمسين عاما، وأكثر من خمسمائة ألف معتقل سياسي، لا يعرف أحد مصير غالبيتهم، وتسعة ملايين لاجئ، تم تشريدهم قسرا. لذا، من الضروري الإسراع في إنشاء مناطق آمنة، تسمح للاجئين بالعودة إلى بلادهم… ونتمنى على روسيا أن تساعد في حل الصراع السوري، عبر تسويةٍ سياسيةٍ موضوعية، والإقلاع عن دعم طرفٍ صغير، على حساب طرف أكبر، والوقوف على مسافةٍ واحدة من مكونات الشعب السوري… وفي رأينا أن محادثات أستانة راعت مصالح تركيا وإيران، أكثر مما راعت مصالح السوريين الذين من الخطأ الاعتقاد أن تهميشهم وتجاهل مصالحهم سينهي الحرب… سورية وجوارها لن تنعم بالسلام، طالما أن نظام الأسد وحلفاءه الإيرانيين ومليشياتهم الطائفية يمارسون الوحشية والإجرام الممنهج ضد الشعب السوري”. لذلك نقول لكم: “الأسد يجب أن يحال إلى التقاعد، لفتح طريق المصالحة والاستقرار في سورية… ومنع تحوّلها إلى حقل تجارب واختبار للمشروع الإيراني، ولسحب قوات إيران ومليشياتها التي استقدمت للقتال هناك، كي نتمكّن من القضاء على تنظيم داعش، وطرده خارج المنطقة برمتها، بينما سيزيد نقيض هذا فاعلية التنظيم في الإقليم وعموم الشرق الأوسط … لا سيما وأن الحرس الثوري الإيراني وتنظيم داعش يشكلان تهديدا مباشرا لمؤسسات الدولة السورية، ويجب التحرّك الفوري ضدهما كليهما، وهناك خطة موضوعية متكاملة لاستعادة الدولة السورية، كفيلة ببقاء الأقليات وجميع المكونات السورية بعيدة عن الاقتتال والحروب والعنف فيما بينها… أتمنى علي روسيا والولايات المتحدة التحرّك والتنسيق معا في هذا الاتجاه، لضمان السلم والاستقرار في العالم، وتجنب المواجهة بينهما، والمحافظة على ديمومة تعاوننا الاستراتيجي”.
هذه الأولويات التي يتحدث عنها الجنرال كانت دوما مطلب السوريين، ويأتي تفهمه أسباب الثورة وحجم الإجرام الأسدي/ الإيراني في الوقت المناسب، ويتفق مع رغبة الشعب السوري في العيش بسلام وتعاون بين جميع مكوناته، كما أن المنطقة الآمنة كانت دوما مطلبا سوريا وضرورة لحماية الشعب من التشرد والحصار، ولضمان حقه في العودة إلى وطنه آمنا مطمئنا، كما يقول الجنرال، خصوصا إذا “أقال” الروس الأسد سلميا، وفتحوا الباب أمام حل يفضي إلى انسحاب إيران وحرسها ومرتزقتها، وإلى القضاء، في الوقت نفسه، على “داعش” ومخاطرها. إذا كان هذا هو الخطة التي طالب الروس بالتعاون لتنفيذها، وهو يحذرهم من نتائج المواجهة، فإن ما يشير إليه من تبدل في الموقف الأميركي تجاه الصراع في سورية، بأبعاده الداخلية والإقليمية والدولية، يصحح سياسات واشنطن، ويضعها على سكة حل، جوهره تحقيق المصالح الروسية والأميركية، وإنهاء الحرب السورية بـ”إقالة” الأسد وإخراج إيران و”داعش” من سورية.
يطرح كلام الجنرال تساؤلاتٍ، منها: ما عساه يكون موقف روسيا؟ هل ستقبل الانفكاك عن إيران والأسد وستستجيب للتحذير من مخاطر عدم التعاون، والتذكير بالحرب العالمية الثانية، وإنجازاتها المشتركة، وبما أعقبها من صراعٍ أطاح الإمبراطورية السوفييتية؟ وهل تعني أقواله أن التعاون الروسي مع إيران وتركيا سيحقق مصالحها وحدها، كما حدث في أستانة، بينما المطلوب تحقيق مصالح موسكو وأميركا والسوريين؟ وهل يقبل الروس صفقة الجنرال التي تعدهم أول مرة بعد غزو سورية بالتعاون في المجال الدولي الذي كان أحد أهم أهداف الغزو، في مقابل الاستجابة لخطته والتعاون في تنفيذها؟ أخيرا: هل ما قاله الجنرال في محفل دولي يعكس رأيه الشخصي، أم هو إشارة مقصودة إلى النهج الذي ستعتمده إدارة ترامب تجاه سورية والمنطقة، وتريد لموسكو أن تلتقي معه في منتصف الطريق، وهل يكون فشل جنيف بداية التعاون بين الجبّارين؟