خلال حفل تخريج طلبة من جامعة اليرموك، ألقى العين ورئيس الوزراء السابق د. عبدالله النسور، كلمةً أشار فيها إلى أنّنا تجاوزنا السنوات الست السوداء، ويقصد بذلك لحظة “الربيع العربي” وما بعدها.
من حيث المبدأ، فإن التوصيف صحيح؛ إذ تجنّب الأردن الانزلاق إلى ما نشاهده اليوم حولنا مما يحدث من الشرق والشمال، ومما حدث في دول عربية أخرى انزلقت إلى مستنقعات الحروب الطائفية والأهلية والفوضى وانهيار مؤسسات الدولة وقيم السلم المجتمعي.
لكن هذه اللغة (وملخّصها: انظروا من نوافذكم إلى الحرائق حولكم لتحمدوا الله) التي يتقن المسؤولون استخدامها لدينا، هي سلاح ذو حدّين، وتنطوي على تعريف ظالم مجحف للحظة الثورات العربية السلمية والحراك الشعبي المطالب بالإصلاح والتغيير؛ وهي تخلط ما بين تلك الروح الإصلاحية التي حرّكتها الطبقة الوسطى وجيل الشباب في أغلب المجتمعات العربية من جهة، والثورة المضادة التي قامت بها الأنظمة الحاكمة في تلك الدول والالتفاف على تلك المطالب، وهي –أي الممانعة الرسمية العربية- التي أدت إلى ما نحن فيه من “حقبة سوداء”!
تلك العملية المستمرة اليوم، على صعيد اللغة والسياسات، لإدانة لحظة “الربيع العربي” وتزييف وعي المواطنين بما يجري، لا تُطمئن عندما تصدر عن مسؤولين وسياسيين أردنيين، لأنّها تستبطن مفاضلة غير صحيحة ولا عادلة بين الأمن والاستقرار من جهة، والحق في الحرية والإصلاح الشامل من جهةٍ ثانية؛ هذا من زاوية.
من زاويةٍ أخرى أكثر أهمية؛ فإنّ هذه المقاربة الظالمة تتحايل على الأسباب والشروط التي خلقت لحظة “الربيع العربي”، وتتمثل بما وصلت إليه الدولة القُطرية العربية من فشل وعجز مركّب متعدد الأبعاد، سواء على صعيد الحاكمية الرشيدة والإصلاحات السياسية، أو حتى الأوضاع الاقتصادية من عجز ومديونيات ومشكلات البطالة وارتفاع معدلات الفقر والحرمان الاجتماعي، ووصم الحكومات بالفساد، وفشل تنموي، واتكاء على الجانب الأمني والترهيب، وإغلاق الآفاق السلمية للتغيير السياسي… إلخ.
من الضروري أن نحمد الله في الأردن على أنّنا عبرنا مرحلة خطرة. لكنّ الرحلة لم تنته، ولم نعبر إلا لأنّنا تجنّبنا المسار الدموي لتلك الأنظمة القمعية، والسياسات التسلطية والرهان على القمع بوصفه الخيار الوحيد للتعامل مع الشعوب. ولو أنّ تلك الأنظمة تعاملت بحكمة وعدالة مع مطالب الناس المحقة في تقرير المصير، وساعدت على عملية انتقال سلمية للسلطة، ولو أن النظام الرسمي العربي لم يتواطأ على وقف “دومينو” “الربيع العربي”، لولا كل ذلك لما دخلنا الحقبة الكارثية الحالية. فالسبب لما وصلنا إليه ليس أنّ الناس تريد التغيير والحرية والإصلاح والعدالة، فهذه قيم إنسانية جوهرية، وحقوق إنسانية أصيلة، بل لأنّ تلك الأنظمة حاولت الاستمرار على النهج السابق والسياسات الخشبية الفاشلة، فكانت النتيجة خسارة كل شيء للمجتمعات والشعوب والأنظمة!
هكذا من المفترض أن نقرأ تلك الحقبة بصورة دقيقة وعميقة. ولا يجوز تمرير كلمات المسؤولين والسياسيين الأردنيين من دون نقاش وتوضيح وتدقيق، لأنّ تلك الكلمات هي بمثابة “مبتدأ” يتطلب خبراً، وهو أنّ العام 2011 كان بداية لحقبة جديدة في العالم العربي، أنهى حقبة الحرب الباردة التي سادت منذ الحرب العالمية الثانية، ووضعنا أمام مرحلة جديدة، لا بديل فيها عن الإصلاح الشامل وعن التغيير الهادئ المتدرج نحو الحاكمية الرشيدة والديمقراطية والاعتماد على النفس اقتصادياً، والخروج من منطق سياسات الاسترضاء ومن الخشية من الإصلاح والتغيير.
جيل الشباب اليوم يواجه صعوبات كبيرة وقاسية، وهو بحاجة إلى من يصنع له أفقاً جديداً كي لا يصبح رهينةً للإحباط واليأس اللذين يعدّان الباب الذي تدخل منه الشرور كافة؛ المخدرات والتطرف والفساد!