استضاف الجامع الأزهر الأسبوع الماضي ما بدا أنه مؤتمر عن الأحوال المأسوية التي يمر بها العالم العربي منذ ست سنوات إذا انطلقنا من بداية ثورات الربيع العربي، و13 سنة إذا انطلقنا من بداية الغزو الأميركي للعراق، وبداية توسع النفوذ الإيراني هناك. عقد المؤتمر تحت شعار «الحرية والمواطنة.. التنوع والتكامل». وهو شعار جميل يعبر عن معادلة سياسية فكرية مستنيرة تقول بأنه ليست هناك مواطنة من دون حرية، من حيث أن الحرية حق طبيعي، والمواطنة حق مكتسب. وأن التنوع (المذهبي والديني) مدعاة بالتالي للتكامل والقوة، وليس للانقسام والتنافر والاحتراب من منطلقات مذهبية أو دينية.
ليس هناك أجمل ولا ألزم من هذا للتعبير عما تتطلع إليه المنطقة العربية في أيامها الحرجة التي تمر بها. تكامل مع هذا المعنى ما جاء في الفقرة الأولى من البيان الختامي للمؤتمر، الذي حمل اسم «بيان الأزهر»، مؤكداً معنى المواطنة، وعلى أن هذا المصطلح «أصيل في الإسلام، وقد شعَّت أنوارُه الأولى من دستور المدينة وما تلاه من كُتب وعُهود لنبيِّ الله -صلى الله عليه وسلم- يحدِّد فيها علاقةَ المسلمين بغير المسلمين، ويبادر الإعلان إلى تأكيد أن المواطَنة ليست حلاً مستورداً، وإنما استدعاءٌ لأول ممارسة إسلامية لنظام الحُكم طبَّقها النبي -صلى الله عليه وسلم- وفي أول مجتمعٍ إسلامي أسَّسه هو دولة المدينة».
بما أنني تشرفت بدعوتي لهذا المؤتمر الكبير، وشاركت بإلقاء كلمة في جلسته الأولى، فقد تفاجأت بأن بيان الأزهر لم يتطرق، انطلاقاً من شعار المؤتمر ولا من مضامين فقرته الأولى، إلى الحال العربية كلاً، ولا إلى المأساة المركزية في هذه الحال، وهي حال تتمثل في بروز الطائفية وأولويتها كأساس للانتماء والهوية بين المسلمين أنفسهم قبل غيرهم، في مقابل الانتماء للدولة الوطنية. كما فوجئت بتجاهل البيان خطورة تفشي ظاهرة الميليشيات (السني منها والشيعي) كتعبير عسكري عنيف لهذا الاصطفاف الطائفي في المنطقة العربية.
ومن أبشع مظاهر هذا التعبير الحروب الأهلية التي تعصف بكل من العراق وسورية، ودور الدولة في هذه الحروب، وهي التي يفترض أنها دولة وطنية جامعة. بدلاً من ذلك، تركز اهتمام البيان على قضية أخرى فرعية، أي تفرعت عن القضية المركزية. وقد عبر البيان عن ذلك في ما خلص إليه في الفقرة الأولى ذاتها بالنص على أن «الأزهر ومجلس حكماء المسلمين ومسيحيِّي الشرق يلتقون اليومَ من جديد على الإيمان بالمساواة بين المسلمين والمسيحيين في الأوطان والحقوق والواجبات، باعتبارهم «أمّة واحدة، للمسلمين دينُهم وللمسيحيين دينهم»، اقتداءً بما نصَّ عليه النبي -صلى الله عليه وسلم– في دستور المدينة»، وهذا النص بحد ذاته وبمضمونه صحيح تماماً، ولا ينبغي أن يختلف عليه ولا على أهميته أحد، لكنه ليس أُسَّ المأساة التي تعصف بالمنطقة منذ عام 2003. على العكس من ذلك، فإن اختلال العلاقة بين المسيحيين والمسلمين في منطقتنا هو في هذه المرحلة نتيجة مباشرة تفرعت عن الأزمة التي تمر بها العلاقة بين العرب المسلمين أنفسهم.
وبما أن بيان الأزهر انطلق في معالجته قضية المواطَنة والتنوع من «دستور المدينة»، كان ينبغي الالتفات إلى حقيقة أن شمولية مفهوم المواطنة في هذا البيان واتساعه لكل المكونات الدينية والاجتماعية لمجتمع المدينة آنذاك، إنما جاء مبكراً، أي بُعيد هجرة النبي مباشرة، وتعبيراً عن حقيقة أن المكون المسلم حينها كان متماسكاً وقوياً ولم ينقسم بعدُ إلى مذاهب ونحل متفرقة، على عكس الحال العربية الإسلامية حالياً، بما تعانيه من أسوأ وأخطر الانقسامات المذهبية التي عرفتها عبر تاريخها. ومن الطبيعي في هذه الحال أن تضطرب علاقة المسلمين والمسيحيين.
ومن ثم، فإن تحقيق المساواة «بين المسلمين والمسيحيين في الأوطان والحقوق والواجبات، باعتبارهم «أُمَّة واحدة…»، بما هو مطلب ملح في مشروعيته وضرورته، يتطلب أولاً تحقيق هذا المفهوم الوطني الشامل والمتسامح بين المسلمين أنفسهم، لأنهم هم من يمسك بزمام الحكم والدولة وليس غيرهم. ولن يتحقق الأمن والاستقرار وحفظ الحقوق والحريات للجميع في كل الدول العربية إلا عندما تصبح معادلة «الحرية والمواطنة… التنوع والتكامل» شاملة للجميع: المسلم والمسيحي، والسني والشيعي، والكاثوليكي والأرثوذكسي… إلخ، في ظل دولة وطنية لجميع مواطنيها من دون تمييز. البيان لا ينكر ذلك، لكنه لا يعترف بالسبب الحقيقي وراء أن المعادلة التي يقترحها أبعد ما تكون من التحقق من الزاوية التي يقترحها، وأن المنطقة غارقة في مشاريع طائفية وحروب أهلية قتلت وشردت الملايين، وأن محاولات لا تكل لتطبيع ظاهرة الميليشيات الطائفية كمنافس وبديل من الدول الوطنية الفاشلة. هذا واضح في حالات العراق وسورية ولبنان. ومع أن بيان الأزهر ينادي عن حق وبصيرة بالتخلي عن مفهوم «الأقليات» واستبداله بمفهوم المواطنة، تعبيراً عن المساواة والتكامل، إلا أنه تجاهل حقيقة أن المشروع الطائفي في المنطقة إنما يستند إلى «تحالف الأقليات»، وليس إلى شيء آخر، فحزب الله في لبنان بات بترسانته العسكرية أقوى من جيش الدولة، وينوب عنها بالتدخل العسكري خارج لبنان ضمن المشروع ذاته. وميليشيات الحشد الشعبي في العراق تم تشريعها كقوة عسكرية موازية للجيش الوطني للدولة، حتى النظام السوري بات يعتمد في بقائه على مثل هذه الميليشيات.
أمام هذه المأساة التي يمر بها العالم العربي، يصبح من الواضح أن أخطر ما يتهدد المواطنة والدولة الوطنية، وبالتالي الحرية والتعددية، يتمثل أولاً في الطائفية والمذهبية، وفي تفشي ظاهرة الميليشيات ثانياً. والهروب من مواجهة حقيقية ومباشرة لهذه الظاهرة بكل تجلياتها، يجعل من معادلة «الحرية والمواطنة… والتنوع والتكامل» مجرد أمنية تذروها الرياح العاصفة لمأساة المنطقة، التي إذا تركت لن تستثني المسلمين ولا المسيحيين.
السؤال: لماذا تجاهل بيان الأزهر حقيقة الواقع العربي واختار التركيز على جزئية متفرعة عنه؟ تكمن الإجابة في تقديم أزمة العلاقة بين الأقباط والمسلمين في مصر وكأنها أس الأزمة العربية، وهي ليست كذلك. والأرجح أن الدافع هنا هو اعتقاد أن تعويم مشكلة محلية على هذا النحو يخفف الضغط على الواقع المحلي المصري، ويوفر غطاء إقليمياً للدولة في تعاملها مع هذه الأزمة.
وإلى جانب أن هذا همش القضية المركزية والمأساة الناجمة عنها في المنطقة (الطائفية والميليشيات وارتباطها عضوياً بدور وسياسات الدول)، فهو ينخرط في الخطاب السائد الذي يحصر نقده وهجاءه في تطرف الحركات الدينية، ويبرئ الدولة وسياساتها من أي مساهمة في ذلك. ودونك ما يقوله البيان في فقرته الرابعة من أن «حماية المواطنين في حياتهم وحرياتهم وممتلكاتهم وسائر حقوق مواطنتهم… صارت الواجب الأول للدُّول الوطنية التي لا يصح إعفاؤها منها…». ثم يستطرد قائلاً: «ولا ينبغي بأي حال من الأحوال مزاحمة الدولة في أداء هذا الواجب، أياً كان نوع المزاحمة». كيف يستقيم أنه لا يصح إعفاء الدولة من واجبها وفي الوقت ذاته لا تنبغي مزاحمتها في أداء هذا الواجب «أياً كان نوع المزاحمة»، كأن الدولة مؤتمنة أما مواطنوها فليسوا مؤتمنين، بما يفضي إلى ارتباك مفهوم المواطَنة والدولة الوطنية.