عام 2013، وبعدما قام الجيش الاسرائيلي بتدمير قرية «باب الشمس»، وهي قرية بناها شبان وشابات فلسطينيات وفلسطينيون على أرض مصادرة في منطقة القدس، تلقيت اتصالاً من اعضاء في المجلس البلدي للقرية المدمرة والمهجرة، أبلغوني فيه بأنهم يستعدون لزيارة بيروت، من أجل تقديم جواز سفر فلسطيني لي صادر عن السلطة الفلسطينية.
كنت اتابع بعقلي ووجداني تجربة تحويل القرية المتخيّلة التي بناها يونس ونهيلة في مغارة قرب قرية دير الاسد الجليلية في روايتي «باب الشمس»، إلى حقيقة، وكان طلبي الوحيد من رفاقي ورفيقاتي في القرية التي بُنيت من الخيام والارادة وقَبَس الحرية، أن يقبلوني مواطناً في قريتهم.
بالنسبة لي كانت تلك القرية، التي لم تتوقف عن التوالد في قرى جديدة حملت احداها اسم قرية احفاد يونس، هي جائزتي الكبرى ككاتب. فليس هناك من طموح يعادل تحويل الخيال إلى حقيقة، وليس هناك من حلم يساوي تحرير الأرض من أجل بناء قرى تستقبل شمس العدل والحرية.
بالطبع كنت سعيداً بلقاء اخوتي واخواتي الذين بنوا لي قريتي المقدسية. أنا البيروتي أباً عن جد الذي كان يحسد أصدقاءه الآتين من الريف لأنهم يملكون قرى يعودون اليها ساعة يشاءون، وفجأة صرت أنتمي الى قرية أحلم بالعودة اليها، قرية نجحت في تحويل الكلمات إلى بيوت وشوارع دمرها الاحتلال، لكنها صارت تقيم في مكان يقع بين الذاكرة والخيال.
يومها صار يحق لي أن اناضل من أجل حقي في العودة، ليس كمطلب وطني وسياسي فقط، بل كمطلب شخصي أيضاً، وهو حق لا يسقط بالتقادم وسيرثه من بعدي ابنتي وابني وحفيدي، كما سيرثه جميع القراء الذين تماهوا مع «باب الشمس» وامتلكوها، مثلما فعل المناضلون الفلسطينيون الذين بنوا القرية المدمرة والمهجرة.
الزيارة لم تحصل وجواز السفر لم يصل. لا أعلم ظروف رفاقي وسبب عدم مجيئهم إلى بيروت، لكنني عذرتهم، وفكرت أنه كان علي أنا أن أذهب، وانه اذا كان هناك من تقصير فهو تقصيرنا نحن. فرغم كل تضحيات وبطولات وأخطاء زمن المقاومة في الجنوب اللبناني، فإننا لم نستطع الوصول اليهم، وتركنا مغارة «باب الشمس» مقفلة، بحسب وصية نهيلة، إلى أن جاء من حاول فتح بابها واعادة بنائها، في قرية صمدت بضعة ايام، لكنها قدمت نموذجاً لما يمكن لإرادة المقاومة ان تصنعه.
اما حكايتي مع التهمة التي شاعت بأنني فلسطيني ولست لبنانياً، (وهي تهمة أعتز بها، لأن هويتي الفلسطينية التي يُعيّرني بها البعض، لم تكن ولن تكون سوى هوية نضالية بنتها ارادة مقاومة الظلم والاحتلال والقمع)، فهي حكاية تستحق أن تروى، لأنها تحمل في ثناياها التباسات العلاقة بين الكلام والذاكرة، وكيف تستطيع الحكاية المُختلقة أن تسود في ظرف معين. لكنني سأكتفي بقصة مقال نُشر في صحيفة «الديار» اللبنانية عام 1998، حين شاركت في تنظيم انشطة الذكرى الخمسين للنكبة في مسرح بيروت، الذي كنت مديره الفني. كانت الأجواء اللبنانية مثقلة بهيمنة النظام السوري على لبنان. يومها بدأنا احتفالات الذكرى بمسيرة شموع إلى المقبرة الجماعية لشهداء مجزرة صبرا وشاتيلا.
وللتذكير فقد كان السيد ايلي حبيقة، وهو احد أبطال تلك المجزرة المروّعة، وزيراً في الحكومة اللبنانية. يومها قامت الدنيا علينا، لأن مجرد عودة الذاكرة الفلسطينية إلى مكانها اللبناني، كان يعتبر جريمة في عرف النظام السوري وحلفائه واتباعه. في تلك الافتتاحية كتب الصحافي الحصيف الذي ينتمي إلى التيار القومي الممانع، انهم (والضمير يعود هنا الى اللبنانيين) نادمون لأنهم جنسوني. وكان يقصد أنني فلسطيني حظي بالجنسية اللبنانية، كبعض الفلسطينيين الذين جُنسوا في عهد كميل شمعون لأسباب طائفية. يومها، ووسط سيل الشتائم والتهديدات التي حاصرتنا، اعتبرت ذلك المقال مجرد نكتة. ضحكت طويلاً على هذا المنطق الذي لا يستطيع ان يفهم أن الهوية الفلسطينية ليست تهمة بل هي شرف علينا أن نستحقه.
تذكرت هذه الحكاية في مطلع الأسبوع الماضي حين أتصل بي من رام الله الصديق الروائي يحيى يخلف ليطلب مني البقاء في بيروت وعدم السفر إلى القاهرة للاشتراك في اجتماعات مجلس أمناء مؤسسة ياسر عرفات، لأن الجواز الفلسطيني الموعود منذ أربع سنوات سيصل إلى بيروت مع الرئيس الفلسطيني محمود عباس.
ومساء الخميس 23 شباط/فبراير الجاري، ذهبت إلى فندق حبتور في سن الفيل، وبعدما ضعنا في متاهات هذا المجمّع الفندقي الضخم الذي يذكّر بمجمّعات دبي، وصلنا إلى ردهة الفندق حيث كانت في استقبالنا المناضلة آمنة جبريل، ووجدنا طريقنا الى الطابق الثلاثين، وهناك تسنى لي اللقاء بمحسن ابراهيم أحد القادة التاريخيين للحركة الوطنية اللبنانية. وبعدما قام الرئيس الفلسطيني بمنحنا محسن ابراهيم وانا وسامين، وجدت نفسي وانا أحمل «الباسبور» الأحمر في يدي.
الآن ثبتت تهمتي، فأنا الآن فلسطيني أحمل وثيقة رسمية رقمها A0049639، وقد تجنست بطريقة عكسية، بدل أن أكون فلسطينياً يحمل جوازاً لبنانياً، فأنا لبناني يحمل جوازاً فلسطينياً. وهذه هي المرة الثالثة التي احمل فيها الهوية الفلسطينية، المرة الأولى، عندما انتميت الى النضال الفلسطيني في أواخر ستينيات القرن الماضي، والمرة الثانية، عندما بُنيت قرية «باب الشمس» المصنوعة من كلمات وإرادة وحب، وفي المرة الثالثة امتلكت جواز سفر.
أنا أعرف أن هذا الجواز لا يحمل سوى قيمة رمزية، لكنني، وبسبب حشريتي، أردت أن أعرف هل استطيع استخدامه فعلاً، فقيل لي انه جواز صالح استطيع أن أسافر به إلى جميع أنحاء العالم.
«يعني استطيع أن أزور به فلسطين»، قلت.
«لا»، أجابوني، «تستطيع ان تسافر الى حيث تريد ما عدا فلسطين».
«ولكنه جواز فلسطيني، غريب أن لا يستطيع الفلسطيني زيارة وطنه»! قلت.
شرحوا لي أن السلطات الاسرائيلية لا تعترف بجوازي، وأن فلسطين تحت الاحتلال، والجيش الإسرائيلي المحتل يسيطر على حدودها.
«هذا غير معقول»، قلت.
«الاحتلال هو غير المعقول»، أجابوني.
«لكن فلسطين وطن حقيقي وليست وطناً من ورق»، قلت.
قالوا وقلت … وبدأت الكلمات تتلاشى امام صور اصدقائي ورفاقي الشهداء: علي ابو طوق ومحمد شبارو وطوني النمس ومروان كيالي، والمئات من رفاق المسيرة الذين رسموا بدمائهم طريق الذهاب إلى فلسطين. وفهمت أن العودة لا تحتاج إلى جواز سفر، وأن علينا ان نجد طريق المقاومة من جديد كي نلتقي بأهلنا في «باب الشمس» المحررة.