أحالت هيئة النزاهة ومكافحة الفساد ثلاث قضايا جديدة، خلال فترة قصيرة، إلى المحكمة المختصة، تنطوي على “استثمار وظيفة، واعتداء على المال العام، وطلب وعرض رشوة، وتجاوزات للقوانين والأنظمة”. وكانت الهيئة حولت قضايا فساد أخرى، خلال الأسابيع الماضية، تتعلق بالفساد في أمانة العاصمة وما أطلق عليه “مافيات تصاريح العمل”.
هذه الوجبات من القضايا هي فقط البداية لعملية “تنظيف” واسعة (أشرنا إليها سابقاً)، مبنية على قرار حاسم بمواجهة الرشوة والشللية والمحسوبيات والإكراميات. وهذا القرار لم يأت من فراغ أو مجرّد فزعة مؤقتة؛ فالظاهرة أخذت تنتشر حتى أصبحت مقلقة ومزعجة، وتكاد تكون عامة في العديد من الوزارات والمؤسسات، وأصبح كثير من المواطنين والأجانب المقيمين يشتكون منها، ويستغربون كيف انتشرت بهذا الحجم خلال الأعوام الماضية، من دون أن يكون هناك “تحرّك” رسمي جدّي لمواجهة هذه الآفة المدمّرة لأي دولة ومجتمع.
الغريب أنّ هناك تحفظات من قبل رسميين وسياسيين، وحتى شريحة اجتماعية من المواطنين، على هذه الخطوات؛ إذ سمعنا حججاً متعددة في الأيام الماضية، من مثل أنّ المطلوب هو مواجهة الفساد الكبير قبل الصغير. وهو منطق مصيب في جزء منه، لكنّه في الجزء الآخر خطر، ويعني –بصورة غير مباشرة- “الصمت” على هذه الظاهرة واستمرار التساهل، حتى يصبح الفساد الإداري “حقوقاً مكتسبة”، كما هي الحال في دول أخرى، صمتت على هذه الظاهرة، حتى أصبحت المافيات المرتبطة بها أقوى من أي قرار أو توجّه، وباتت سمعتها مغموسة بهذه الظاهرة، منذ وصولك إلى المطار إلى مغادرتك تلك البلاد؛ إذ لا تتم معاملة إلا بالرشوة أو “الإكراميات”، من أبسط موظف إلى أعلى السلّم!
ثمة اتجاه آخر يخفي الخيط المهم الفاصل بين فهم بعض أسباب الظاهرة من جهة، وتبريرها وشرعنتها –من جهةٍ أخرى- بذريعة الظروف الاقتصادية والاجتماعية، وتآكل القدرة الشرائية لمداخيل شريحة عريضة من الموظفين. فالسبب موجود فعلاً، لكنّ هناك منظومة أخلاقية وقيمية أساسية لو انهارت لانهارت سمعة المؤسسات وهيبتها، ولتكسّر كل معنى لـ”دولة القانون”، ما يفتح الباب على أخطار وتهديدات داخلية أخرى، عندما تنهار وتتهاوى القيم في عيون المواطنين جميعاً، وتتحطم السلطة الأخلاقية للدولة!
مصدر الخشية الآخر نسمعه من مسؤولين بأنّ هناك آلافا قد يتضررون من هذه الخطوات في مؤسسات الدولة، أو من يتعاملون معها. وهذا قد يكون صحيحاً، لكنّ الظاهرة ما تزال رغم انتشارها السريع في الفترة الأخيرة لا تحظى بقبول اجتماعي، ولا نجد من يتجرأ على الدفاع عنها؛ وهي ما تزال في ثقافتنا وأخلاقنا “عيباً كبيراً”، هذا من ناحية. من ناحية أخرى، هناك ملايين ممن سيتسفيدون من عملية التنظيف المطلوبة؛ ممن لا يريدون أن تُصبغ علاقتهم بمؤسساتهم بهذه الصبغة المقيتة.
هذه الخطوة التي بدأتها الحكومة الحالية بتوجيه مباشر من مجلس السياسات الوطني (NPC)، مهمة جداً ونقطة تحول كبيرة في ترسيخ مبدأ هيبة الدولة وسيادة القانون. لكن المهم أن تقترن برسالة سياسية وإعلامية واضحة، وبعملية مؤسسية، والأهم أن يتحوّل الوزراء والمسؤولون إلى ماكينة تعمل في الاتجاه نفسه؛ التنظيف، ومحاصرة الظاهرة، وتحويل الفاسدين إلى القضاء، وعدم التساهل والتهاون، والتأكيد على رفض الازدواجية والمجاملات، فالعنوان الجوهري لهذه العملية هو سيادة القانون وحماية الدولة وصورتها.
هناك خريطة واضحة لدى المسؤولين وقاعدة بيانات جيدة عن مواطن الخلل؛ في المؤسسات والوزارات كافّة، ما يفسّر سرعة اكتشاف العديد من الحالات خلال الفترة الماضية. وهناك مراحل وقضايا أخرى متوقعة إلى حين إنجاز المهمة بدرجة كبيرة.