من يتابع القطاعين ألأكثر أهمية وحيوية في أي اقتصاد، وهما الزراعة والصناعة، و يمثلان معا أكثر من 30% من الناتج المحلي الإجمالي، يفاجأ بما يقوله ممثلو هذين القطاعين . ففي الوقفة الاحتجاجية التي وقفها المزارعون أمام مجلس النواب في الأيام الماضية، كان الشعار الذي رفعه المتظاهرون “ إن الزراعة تلفظ أنفاسها الأخيرة، وأن الأراضي المزروعة تراجعت خلال السنوات الماضية بنسبة 30%” و “إن السياسات الفاشلة أو اللاسياسات التي تبنتها الحكومات المتعاقبة قد عملت على تهشيم هذا القطاع الحيوي سواء في جانبه النباتي أو الحيواني” . وكانت الضربة الأخيرة الموجهة للقطاع تتمثل في رفع الضرائب على مدخلات الانتاج من الأسمدة و المبيدات و المواد الأخرى، وكذلك رفع رسوم العمالة الوافدة . وهذا من شأنه أن يضعف الإقبال على الاستثمار في الزراعة،و ارتفاع كلفة الأيدي العاملة إلى الضعف،ما سيرفع من كلفة الانتاج إلى مستويات خطيرة .هذا في الوقت الذي تدعم الكثير من دول العالم قطاع الزراعة بمليارات الدولارات نقدا و عينا، ابتداء من الهند و الصين، ومرورا باليابان و تركيا وجنوب أفريقيا و أوروبا، و انتهاء بكندا و الولايات المتحدة الأمريكية.
صحيح أن “العمالة الوافدة و زيادتها المفرطة،و مئات الآلاف منها بدون تصاريح عمل في مختلف أنحاء المملكة، مشكلة بالغة التعقيد اقتصاديا و اجتماعيا و إداريا و مهنيا بل و أمنيا”و تتطلب المعالجة. و لكن هل يحتمل القطاع الزراعي كل هذه الارتفاعات الفجائية؟ هل يمكن ترك الانتاج الزراعي في مهب الريح ؟ودون مراحل انتقالية و تدرجية يتوافق عليها جميع الأطراف ؟ وتعمل الدولة خلالها على المساعدة في زيادة الإنتاج وتكثيف مدخلات العلم و التكنولوجيا و رفع الإنتاجية و تصنيع الزراعة؟ في عصر الانترنت والسجلات الالكترونية، والاتصالات الذكية و أجهزة الرقابة و المتابعة، هل يصعب ضبط العمالة من حيث التصاريح أو مزاولة العمل المصرح لها بمزاولته، أو أية تفاصيل أخرى كالانتقال من قطاع إلى غيره؟
ومن جانب آخر، فإن الصناعة الوطنية تشكو أمر الشكوى من حيث الصعوبات التي تعاني منها. ابتداء من عدم توفر العمالة الأردنية الماهرة، ومروراً بالتعقيدات الإدارية و الضرائب على مدخلات الإنتاج، وانغلاق أسواق التصدير المجاورة، وانتهاء بمنافسة السلع المستوردة التي تدخل البلاد من خلال اتفاقيات التجارة الحرة. وتتمتع معظم السلع المستوردة، بأشكال غير معلنة من الحماية الإدارية في بلادها، و دعم غير مباشر من خلال الطاقة و التكنولوجيا والتسهيلات الإدارية والنقل وعشرات العناصر الأخرى التي تفتقدها الصناعة الأردنية. هناك آلاف من المصانع الأردنية الصغيرة والمتوسطة والكبيرة اغلقت أبوابها أو هي في طريقها لذلك. ومئات من المستثمرين الأردنيين تركوا بلدهم وتوجهوا إلى الخارج،كما تشير تقارير الصناعيين بل والتقارير الحكومية. ويضاف إلى ذلك قوائم رفع الأسعار الأخيرة ورفع رسوم تصاريح العمل، ما سينعكس على كلفة الانتاج للمنتجات الأردنية لتعجز عن المنافسة مع المستوردات المتدفقة من أقصى أطراف الدنيا إلى أقصاها من الصين والهند وتركيا وكوريا والبرازيل والأرجنتين وجنوب أفريقيا وأوروبا وأمريكا وكندا وفيتنام واندونيسيا،والتي أصبحت تشمل كل شئ من حبة الليمون إلى محرك الطائرة.
والخطأ الذي لا زال يتكرر يوماً بعد يوم وهو اتفاقيات التجارة الحرة المرسلة. وكان آخرها التفاوض على اتقافية الشراكة مع الاتحاد لأوروبي من أجل تحسين شروط المنشأ، ولكن مقابل ذلك التحسين فرض الاتحاد أن تكون العمالة السورية جزءا من العملية الانتاجية القائمة بدلا من أن يمول مشاريع إنتاجية جديدة إضافية تعطي فرص عمل لهؤلاء الضيوف .
لقد درجت الإدارات المتتابعة على “تفضيل الدبلوماسي على الاقتصادي” . و تنظر إلى الخروج باتفاقية مع دولة صديقة لا تتكافأ صناعتنا وزراعتنا وسياحتنا معها وكأنه انتصار وانجاز دبلوماسي سياسي وهو في الجوهر على حساب الاقتصاد الوطني . فأي انتاج أردني يستطيع أن ينافس المنتجات التركية أو الصينية أو الخليجية أو الجنوب افريقية أو غيرها . الصناعيون يقولون إن الصناعة تلفظ أنفاسها .والزراعيون يقولون إن الزراعة تختنق. والسياحيون أيضاً يقولون إن السياحة تعاني التهميش .
هل يعقل أن يستمر الحال في الصناعة والزراعة والسياحة على هذا المنوال حتى تصل البلاد إلى نقطة اللاعودة في هذه القطاعات الأساسية ؟
إن الجباية المالية، و المعالجات المتسرعة التي لا ترافقها برامج موائمة و تطوير، من شأنها أن لا توصل إلى حلول، بل تخلق ازمات . كما أن التخلي عن القطاع ليقاتل وحده في الميدان سيؤدي في الظروف التي تمر بها المنطقة إلى تفكك هذه القطاعات .والنتائج السياسية والاجتماعية والاقتصادية أخطر مما يبدو على السطح.
وعليه فقد أصبح ضرورياً : أولاً : أن تشكل الحكومة 3 مجموعات من الخبراء صناعية وزراعية وسياحية لتلتقي هذه المجموعات مع ممثلين القطاعات الثلاثة، والخروج بحلول وترتيبات و برامج متوافق عليها. وهذا من الممكن أن يتم خلال أسابيع أو أشهر قليلة . ثانياً: أن تعيد الدولة النظر في مسألة التجارة الحرة وتضع ضوابط على السلع التي يمكن استيرادها وفق هذه الاتفاقيات و تحدد “حزام أمان إنتاجي” يخصص للمشاريع الوطنية .ثالثاً : في ظل الاستيراد المفرط و الذي يصل 13 مليار دينار،و الظروف المحيطة بنا وصعوبة التصدير، فإن المباشرة بمشاريع إنتاجية في المحافظات و بمشاركة القطاعات الرسمي و التعاوني و الأهلي و الأكاديمي لتنتج ما يحل محل جزء من المستوردات يمثل الطريق الوحيد لتحريك الاقتصاد و الخروج من الأزمة. رابعا : أن يدخل القطاع الرسمي شريكاً في مشاريع انتاجية كبرى في المحافظات .خامسا أن تضع الحكومة برنامجا ينتهي عام 2025 تعالج من خلاله أزمة العمالة الوافدة و تأهيل العمالة الأردنية لتعبئة المساحات المطلوبة و الانتهاء من مقولة نقص العمالة الأردنية الماهرة.سادسا أن تطلب الأردن من الدول المانحة تمويل مشاريع إنتاجية جديدة لتشغيل العمالة السورية.
و أخيرا فإن الإسراع نحو زيادة الضرائب والرسوم و التفكير في المال بعيدا عن العمل الاقتصادي الاجتماعي،لا يوصل إلى طريق المستقبل الذي يتطلع اليه الوطن و المواطن.