ما يبدو ويُكرّر، وما ترتاح له النظم، وحتى نخب كثيرة، هو القول إن الثورات قد انتهت. ويجري الانطلاق في التحليل من هذه “البديهية” التي لم تعد تستحق النقاش. ارتفع منسوب الرعب بعد بدء الثورات، كما ارتفع منسوب الأمل، النظم عاشت حالة رعب، والنخب العاجزة عاشت حالة أمل، أمل أن يتحقق التغير و”تركب” هي الموجة لكي تصبح المهيمنة، أو في وضع مريح. لكن، تعقّدت الأمور، وتشابكت في شكلٍ بات “يستعصي على الفهم” بالنسبة لها، ويشير إلى نجاح خطط النظم التي عملت على تهشيم الثورات وتدميرها بأشكال مختلفة. لهذا، بات الحديث يجري عن الثورات باعتبارها شيئاً من الماضي، ليطرح السؤال ماذا حققت؟ أو لماذا فشلت؟ أو كيف جرى اختطافها وتحويلها إلى إرهاب، أو حتى بات يتكرّر أنها لم تأتِ سوى بالخراب؟
موجة سوداوية تنتشر بين الذين حلموا بأن تكون هذه الثورات أساس تغيير كبير، مع فرح كبير من النظم، لأنها استطاعت تشويه الثورات وتدميرها. ولا شك في أن النظم والإمبريالية استطاعت أن تتدخل بشكلٍ شوّه الثورات، أو حرفها، ومن ثم عمّمت “الحرب على الإرهاب”، للقول إن الأمر يتعلق بتعصب وأصولية وعنف، وليس بشعوب تريد التغيير لتحقيق مطالب لها.
لكن، لا شك في أن السوداوية تُظهر أن ما يجري في الواقع بعيد عن الفهم، لا قبل الثورات، لهذا لم يجرِ توقع انفجارها، ولا بعد الثورات. بالتالي، لم يُفهم السبب في انفجارها، وما يمكن أن يفرضه هذا السبب. لهذا نشأت قناعةٌ بأن الثورات فشلت، وأنها استُغِلّت للتخريب والتدمير، واختطفها الإسلام السياسي. هذه استنتاجات متسرعة، وتنمّ عن سوء فهم للواقع، وربما نزق فئات وسطى، لا تمتلك الصبر الذي تحتاجه الثورات. لكنها، كذلك، تنمّ عن هروبٍ من
المسؤولية التي يتحملها هؤلاء، سواء نتيجة سوء الفهم، أو نتيجة غياب الدور الفاعل الذي عليهم القيام به. فالثورات لا تنتصر عفوياً، ولا تنجح إذا لم يكن هناك من يعرف كيف يطوّرها، والى أين سيوصلها، ومن ثم التكتيك الذي يجب أن يتبعه من أجل تحقيق التغيير الذي يحقق مطالب الشعوب، فالثورات كانت بحاجة إلى “قادة” يعرفون ذلك كله، ولديهم استراتيجية واضحة تهدف إلى الاستيلاء على السلطة، ويحملون برنامجاً يحقق مطالب الشعوب.
كانت الأحزاب التي كان يجب أن تلعب هذا الدور “في وادٍ آخر” هو الإصلاح والدمقرطة فقط، والشباب الذي انخرط في الثورة لم يكن يمتلك وعياً سياسياً أصلاً نتيجة التهميش والاستبداد الطويل. لهذا، يمكن أن ألفت إلى مسائل ثلاث جوهرية، ربما هي التي يمكن أن ترسي رؤيةً مختلفةً حول الثورات ومصيرها، وتحدّد دوراً جديداً لمن يريد انتصار الثورات.
الأولى: لم يكن ممكناً للثورات أن تعطي أكثر مما أعطت إلى الآن، أي أن ما حدث لم يكن طارئاً ومفاجئاً، بل نتج عن واقع الشعوب والظروف الموضوعية التي شهدتها العقود السابقة للثورات. وأقصد هنا انهيار اليسار عموماً، وتحوله إلى “جثث محنطة”، لا تطالب إلا بوضع أفضل لمكان تحنيطها. لهذا لم تطالب بغير الديمقراطية، لكي تجد مكاناً مريحاً لنشاطها الهامشي. باتت أحزاب هرمة بالتالي، نتيجة تحنيطها الذي جعل الشباب ينفر منها، نتيجة الغربة التي تشعره بها، وسوء الفهم الذي يظهر في خطابها، وخصوصاً أنها لا تلمس وضع الفئات المفقرة أصلاً. إضافة إلى ذلك، أو بديلاً عنه، نهوض الإسلام السياسي (وبمدح شديد من اليسار ذاته)، وتحوّله إلى القوة المعارضة الأساسية، الأمر الذي جعله “نقطة جذبٍ” بعد الثورات، من “النظام القديم” الذي أراد إشراكهم في السلطة، ومن قطاعاتٍ مجتمعيةٍ، توهمت أنه يمتلك الحل لمشكلات المجتمع. وأيضاً، مع إنشاء “المجموعات الإرهابية”، وتعميم الفكر الأصولي الوهابي، والشغل على ورقة الإرهاب ضد النظم وبحجة “الاحتلال”. وكان ذلك كله يوضح أن انفلات الصراع الطبقي يجعل لكل هذه القوى دوراً “مركزياً”، مرحلة أولى، ولأنه لا يحمل مشروعاً يحقق مطالب الشعب ستنهار. وأن الإرهاب هو نتيجة غياب تنظيم الشعب، حيث يمكن أن تلعب النظم والإمبريالية به ضد الثورات.
بالتالي، كان واضحاً أن الثورات سوف تقود إلى الفوضى، لأنها بدون قيادة ثورية، وهذا وضع يمكن أن تستغلّه أطراف متعددة كما شهدنا. إذن، بعد الانفجار الشعبي العفوي جاء دور كل هذه العوامل، وبات الوضع مجال تدخل أطراف عديدة، من أجل تخريب الثورات وتدميرها، وتحويلها إلى عقاب لكل من يتمرّد من خلال العنف والدمار والوحشية التي ظهرت بعدها.
الثانية: لن تنتهي الثورات، بالضبط لأن الشعوب لم تعد قادرة على الاستمرار في الوضع المزري التي باتت تعيشه. يشار عادة إلى أن الوضع الثوري هو نتاج شعور الشعب بأنه لم يعد قادراً على العيش، وشعور النظام بأنه بات عاجزاً عن الحكم والسيطرة. وهو الوضع الذي يفتح على صراع يفرض التغيير. هذا ما هو قائم منذ بداية القرن الواحد والعشرين، حيث أنهكت الشعوب من البطالة والفقر والتهميش والأمّية، والعجز عن توفير السكن والزواج. بالتالي، غابت المسافة بين الحياة والموت نتيجة ذلك كله. هذه اللحظة هي التي تؤسس لصراع حدّي، لا يمكن أن يتوقف، قبل تحقيق التغيير الذي يغيّر وضع الشعب.
بالتالي، يمكن القول إن الثورات قد انفجرت ولم تحقق إلى الآن المطالب التي يريدها الشعب، هذا واضح جداً، ربما على العكس، زاد الوضع سوءاً نتيجة الإيغال في سياسة الخصخصة، ورفع الأسعار وانهيار العملة المحلية، لكنها فتحت على وضع ثوري، يمكن أن يتحوّل إلى ثوراتٍ جديدة في أي لحظة. “الهدوء” الذي حدث في الحراك الشعبي لا يعني نهاية الثورات، بل إنه يعبّر عن قدرات الشعوب نفسها، لكن الاحتقان المتصاعد سوف يفرض انفجارات ثورية جديدة، إلى ثورات جديدة، إلى أن يكون ممكناً “إسقاط النظام” (أي النظام السياسي الاقتصادي، أي الطبقة المسيطرة) وفرض نظام شعبي يحقق مطالبه.
الثالثة: يغيب عن الثورات “العقل” الذي يحمل إمكانية تطويرها، والوصول إلى انتصارها، وهو عادة ما يتمثل في حزبٍ أو أحزاب، فإذا كانت الثورات قد تجاوزت النظم، فقد تجاوزت أيضاً الأحزاب كلها. هذه هي “نقطة ضعف” الثورات، وأساس كل التداخل والاختلاط الذي عانته، ومدخل كل التدخلات الإقليمية والدولية. لكن، لا بد من ملاحظة أن انخراط الشعب في الثورة، وخصوصاً الشباب هنا، الذي يشكل النسبة الأكبر في المجتمع، والذي يعاني من البطالة والفقر أكثر من الفئات الأخرى، يُدخله في “تجريبيةٍ” تفرض الانتقال من العفوية إلى الوعي، حيث أن أزمة الثورات فرضت طرح الأسئلة على مفجريها، وأصبح سؤال، ما العمل؟ هو المطروح، وهو الذي فتح على تجاوز “لاءاتٍ” كانت قائمة، مثل لا للأيديولوجية، ولا للتنظيم، حيث كانت أزمة الأحزاب وعجزها يدفعان الشباب إلى رفع هذين الشعارين، لكن “التجربة” أعادت التفكير بهما، وأصبح واضحاً أن الثورات تفتح على ثورةٍ في الفكر، والعمل السياسي.
بالتالي، يمكن القول إن الثورات أطلقت “مفاعيلها الذاتية” لبناء الأحزاب القادرة على استنهاضها وإيصالها الى الانتصار. لقد بدأت الحركة، ومن ثم بدأ الوعي بالتشكّل، وهما معاً سوف يفرضان انتصار الثورة. طبعاً مع الإفادة من كل الأفكار والتجارب والتصورات التي تبلورت خلال العقود السابقة، ودمجها في صيرورة الوعي والخبرة اللذيْن يتشكلان في بطن الثورات نفسها.
إذن، يمكن القول إننا لا نزال في وضع ثوري، وهذا يعني أن الشعب لن يتراجع عن انفجاره، على الرغم من المرور في انكفاءاتٍ و”هدوء”، وربما حالات يأس، ولسوف يبقى معنياً بالتغيير، ومن ثم لا يجب التغافل عن أن الثورات سوف توجد البديل الذي يعبّر عنها في مسارها نحو الانتصار.