عروبة الإخباري – كتب سلطان الحطاب – اعود الى الزرقاء بين الحين والاخر فقد عشت فيها فترة جميلة من الزمان .. والشباب اذ درست الثانوية في مدرستها جوار قصر شبيب وكنّا نتسكع في شوارعها قبل ان تعرف الازمة. فالزرقاء تشعرك بالدفء والحنان والمودة .. وتأخذك الى الاحساس الجماعي بالتكوينات القائمة فيها..
هنا كنا في شارع الامير شاكر حين كنا في اواخر الستينات نرى افراد الجيش السعودي يتمشون باسلحتهم في الشوارع وقد جاءوا فزعة لنا في حرب عام 1967 قبل ان يغادروا المملكة عائدين.. وهنا الزرقاء التي كانت تجمع العسكر وتعيد انتشارهم في كل المساحة الاردنية لما عرفته معسكراتها من تاريخ ظل يحفظ بذرة التأسيس للامارة ثم المملكة..
حنيني الى الزرقاء لم ينقطع وقد كنت اعاود زيارتها بين الحين والاخر وكنت طالب حتى بعد تخرجي وسفري للعمل سنوات طوال احلم ان اكتب عنها وان اضع عنها كتابا وقد تحقق لي ذلك حين التقط رجل اعمال ايجابي الفكرة وجسدها برعاية هذا الكتاب عن الزرقاء ،فالسيد محمود ابو شعيرة الذي له فضل كبير في تأصيل التعليم الجامعي من خلال ملكية واسعة في جامعة الزرقاء الخاصة ثم خلال مدارس نموذجية اقامها للتعلم الاولي والثانوي.. فقد ظل ينهض بمسؤولية كبيرة في هذا المجال وفي مسؤولية اجتماعية موازية في احياء نشاطات ثقافية واجتماعية وانسانية عبر الجامعة وحتى بعيدا عنها. كما ظلت الزرقاء الخاصة بفضل دوره ورغبته وتوجيهه تشهد عقد مؤتمرات فاعلة على اصعدة مختلفة ليست في مجال خدمة التعليم والتعليم العالي بل في خدمة القضايا الوطنية بما في ذلك قضية القدس التي تنفرد جامعة الزرقاء الخاصة بتدريس مساقات عنها وهو ما ادخل السرور في نفسي وانا استمع لرئيس الجامعة الاستاذ الدكتور محمود الوادي واهدي الجامعة كتبي عن القدس مدينة السماء على الارض وكتاب المسجد الاقصى مهفى القلوب ودعوتي لالقاء محاضرة عن ذلك في كادرها وطلابها..
كنت زرت الدكتور محمود ابو شعيرة في مكتبه وهو يغالب حالة مرضية انتابته وقد تفوق عليها بالصبر واصراره ورفضه وقدراته ذات الدلالات العميقة فالرجل العصامي الذي جرب اصناف من الحياة بين قسوة الحياة ورغدها ادرك بشكل عميق اهمية البعد الانساني في اسناد كل ذي حاجة خاصة في سنوات التعليم ومتطلباته . والقوائم الخاصة التي يحتفظ بها حيث اسماء من يساعدهم من العائلات والاسر المستورة وذي الحاجات هي القائمة الاقرب الى يده والتي يحتفظ بها في ملف خاص حتى حين يسافر للعلاج اذ يخشى ان ينقطع عن هؤلاء الناس او ينقطعون عنه بعدم القدرة على الوصول اليه.
من يعرف الرجل الذي ايتح لي معرفته عن قرب فقد عرفته اخيرا فعرفته كثيرا لديه فيض من العطاء الذي لا ينقطع وهو يميز بين ما هو انساني عميق وما هو سلوك انتهازي او استعراضي لاظهار التخلق .. وعنده ان الخلق غير التخلق وان الكُحل غير الكَحل , وان الطبع غير التطبع .
حين رحّب بفكرتي عن صناعة كتاب عن الزرقاء كان ينصت للمقترح ويأخذ به ويشجع عليه , وقد توجت اللقاء بكتاب حمل اسم ” الزرقاء .. النموذج الاردني ” واعتقد ان العنوان اعجبه , فأبو شعيرة من اكثر الناس ايمانا بالوحدة الوطنية ومن اكثرهم ايمانا بالهاشميين وقيادتهم و دورهم في الامة وفي هذا الوطن تحديدا .
كنت ارى بساطته التي سمعت عنها , و ارقب عن قرب تعاطيه مع القضايا الكبيرة وتسهيلها بالحلول الانسانية المباشرة , وارى تعهده للاشياء برفق حتى تنضج وتثمر , وارى رغبته العارمة في انجاز العمل بسرعة وعدم قبول الذرائع والتبريرات في التأجيل والترحيل , فالذي يخذله هو من يحاول اقناعه بالتاجيل او المماطلة , وهؤلاء لا يركن اليهم ولا يعتمد عليهم , وانما يريد دائما ان يقرب منه من ينجز ويعمل بجد ومثابرة ويحرص ان يقدم نفسه نموذجا على ذلك .
حين زرته كان مهموما بمؤتمر اقليمي عن الجامعات وخاصة الخاصة في الاقليم وقد جرى شراء فكرته من الكثيرين , وايضا كان مهموما بالشباب والاجيال الطالعة وضرورة حمايتهم بتعليم موضوعي وثقافة محصنة .
كان ابدى ملاحظات عن الارتجالية في وزارات التعليم الاردنية السابقة وكشف الكثير عن عيوب المزاجية والتفرد بالقرار , وعدم العودة لاهل الميدان والاختصاص , وكان لنقده الموضوعي قيمة كبيرة وقد اثبت صواب رؤيته .
أبو شعيرة يشتري الافكار الجيدة ويتابعها ويسأل اصحابها المزيد من الايضاح , ولا يحب الافكار التي لا تتجاوز الكلام وتذوب عند اول اختبار , ولذا رأيناه منجزا , ورأينا كيف يتعهد الفكرة الناجحة حتى تثمر , ويوم ان زرناه في بيته في مزرعته في اطراف السلط أعجب به الكثير من اعضاء جمعية الشؤون الدولية , حيث عقدنا في الموقع اجتماعا ورأينا استعداده لدعم الافكار الابداعية والخلاقة لدى الشباب والاجيال الطالعة .
ما زلت اعتقد ان لدينا في مجتمعنا مثل هذا الرجل واننا بحاجة ان نعطيهم المزيد من المساحات ليخدموا بلدنا وقضايانا , ويساهموا في تقديم الحلول وان نمنع اولئك النفر الذي يضع العصي في الدولاب على قاعدة الحسد والنميمة والضغينة من ان يواصل هؤلاء عطاءهم و دعمهم وريادتهم فقد ادركوا مبكرا ان رسالة الحياة هي في تقديم الامل لليائسين وهداة البال للخائفين , والابتسامة للمتشائمين .
انه رجل يؤمن بالعمل المباشر والعطاء المستمر والانجاز الملموس , ولذا ندعو له بطول العمر وتحقيق ما ظل يحلم به من ان يُسعد غيره ففي ذلك السعادة له .