أن يصل الأمر بموظف عمومي حد إحراق مؤسسته التي يعتاش من ورائها، فهذا يعني أن قيم الوظيفة العامة في حالة انهيار تام، وأن الصلة بمؤسسات الدولة انقطعت تماما، بل إنها بلغت مرحلة العداء أيضا.
المصادر الحكومية تفيد بأن الحريق الذي طال بالكامل مكتبين لوزارة العمل في المفرق والرصيفة، يهدف لإخفاء أدلة عن تورط متهمين من بين موظفي المكتبين في عمليات متاجرة بتراخيص العمال الوافدين.
هيئة النزاهة ومكافحة الفساد تسلمت الملفات، وأوقفت نحو عشرين موظفا عن العمل، ووزارة العمل مطمئنة بأن إحراق المكتبين لن يؤثر على سير التحقيق، ولم يطمس الأدلة التي كانت في الأصل بحوزة الوزارة.
المتاجرة بتراخيص العمال الوافدين ليس اكتشافا جديدا؛ فهو نهج قائم منذ سنوات طويلة، تحوّل مع مرور الوقت، إلى تجارة مربحة لمئات الوسطاء والموظفين، وضحاياه عمال وافدون، يدفعون دما وعرقا للحصول على تصريح عمل بطريقة ملتوية تضمن لهم استمرار العمل.
وثمة شكوك كبيرة بأن رفع رسوم الترخيص إلى 500 دينار باستثناء القطاع الزراعي الذي حدد بـ 300 دينار، سيجفف ينبوع الفساد في هذا القطاع. بالأمس سألني عامل وافد: “بعد أن أصبح رسم الترخيص 500 دينار، كم سندفع للوسيط كي نضمن تجديد الترخيص؟ والله كتير يا افندم”.
أقدر أن العملية صعبة ومعقدة، لكن العملية تبدأ وتنتهي بمكاتب العمل، فبدون تواطؤ الموظف العمومي، يستحيل على الوسطاء وأصحاب الشركات والمزارع الوهمية تزوير المعاملات، واستخراج التصاريح.
والمؤسف أن وزارة العمل استكانت لهذا الحال سنوات طويلة، فتغلغلت مافيات التصاريح في مفاصل العملية ودوائر العمل، وصارت المتاجرة بتصاريح العمل فسادا يسري في عروق المؤسسة، يصعب اجتثاثه. وفي الآونة الأخيرة أصبحت العملية شبه علنية، وإنجاز معاملة ترخيص غير قانونية يتم بكل سهولة ويسر.
وبات عمل بعض الموظفين في مكاتب العمل مرهونا بهذه التجارة، وليس أي شيء سواها؛ تجارة تدر أضعاف راتبه المتواضع أصلا، وتسمح التعليمات السارية بتغطيتها لتبدو قانونية ومشروعة.
لقد أهدرنا الوقت والموارد في السابق بتنظيم حملات تصويب أوضاع، وملاحقة العمال المساكين، وتوقيفهم وترحيلهم بظروف غير إنسانية أحيانا، بينما المطلوب في الحقيقة، كان تصويب أوضاع المكاتب المسؤولة عن هذا القطاع.
ولأن المشكلة مزمنة ومتفاقمة منذ عقود، فلا ينبغي المبالغة في التوقعات، ففي أكثر البلدان تقدما وتشددا في تطبيق القانون، يعمل ملايين العمال المهاجرين بشكل غير قانوني، ولايدفعون فلسا واحدا لخزائن الدول التي يعملون فيها.
المطلوب في هذه المرحلة ضرب أوكار المتاجرة بتراخيص العمل، وحلقتها المركزية هي مكاتب العمل، ومن ثم أصحاب الشركات والمزارع الوهمية، الذين ترتقي جريمتهم إلى حد وصفها إتجارا بالبشر.
لكن يظل السؤال المقلق عن فعلة الحرائق المتعمدة لمكاتب العمل يلازمنا، ويدق ناقوس الخطر في دواخلنا؛ ألهذا الحد تردت قيم الوظيفة العامة في بلادنا؟!