يستشعر الأردنيون، كما جميع شعوب العالم، التحولات الاقتصادية والاجتماعية الكبرى التي تجري اليوم، والفرص والتحديات المصاحبة للاقتصاد الرقمي أو الشبكي. وفي ذلك تتشكل ثلاثة تحديات رئيسة: أولها، أن علاقة الدول والمجتمعات والأسواق تحتاج إلى عقد اجتماعي جديد، وإلى قيم وثقافة ومعرفة ومهارات وحكمة جديدة. ولا تكاد تسعفنا تجاربنا السابقة في بناء هذا العقد الاجتماعي، لكن من المؤكد أنه عقد يقوم أساساً على توزيع الفرص في القوة والتأثير، وأن السلطة السياسية لم تعد تحتكر القوة والتأثير في تسيير الفضاء الإعلامي. وربما لم يعد مجال سوى لتمكين المجتمعات واستقلالها، ثم التفاهم والتفاوض والتسويات مع القيادات الاجتماعية الناشئة عن الحقائق الجديدة؛ لأنه لا يمكن ترشيد الأداء الاجتماعي والإعلامي العام إلا بتنظيم اجتماعي حقيقي ومستقل عن السلطة وعن الشركات. وهذا التنظيم الاجتماعي يقدم تسويات مع السلطة والشركات، مقابل مكاسب وحقوق للمجتمعات والأفراد.
لكن من المهم أن تكون هذه القيادات الاجتماعية للتنظيم الاجتماعي المتشكل من البلديات والنقابات ومنظمات المجتمع المدني والأحياء والبلدات والأفراد، تعكس -بحرية وعدالة- التفاعل الاجتماعي الحقيقي ومصالح المجتمعات وأولوياتها، وألا تفرض على المجتمعات والنقابات والبلديات والمنظمات الاجتماعية قواعد منفصلة عن المجتمعات أو تابعة للسلطة أو الشركات. ففي هذه الحالة الأخيرة، يتحول الأداء العام في محصلته إلى صراع مؤذٍ بين السلطة والمجتمعات وبين الشركات والمجتمعات.
التحدي الثاني أنه في ظل ضعف المجتمعات وتهميشها، تكونت في العقود الماضية حالة من التحالف بين السلطة والشركات ضد المجتمعات والطبقات الوسطى والفقيرة، وأنتجت سياسات وتشريعات واتجاهات لمصلحة النخبة والاحتكارات وضد الغالبية الكبرى من المواطنين. ولم يعد ممكناً في تنظيم السياسة العامة والتأثير فيها، سوى فكّ التحالف النخبوي الاحتكاري، وأن تكون النخب تعكس القوى الاجتماعية والاتجاهات السياسية والاجتماعية في تنظيم الموارد والإنفاق العام. فلا يمكن الحديث عن الديمقراطية وسيادة القانون من غير تنظيم عادل للتأثير والموارد والإنفاق العام، إذ في غياب هذه العدالة يتجه الإعلام الشعبي اتجاهاً عدائياً وفوضوياً، وفي حالة محاولة ضبطه ومواجهته من غير سياسات اجتماعية اقتصادية عادلة، تتشكل حالة من العداء بين النخب السياسية والاقتصادية وبين المجتمعات والطبقات والمصالح المتضررة من السياسات القائمة والمهيمنة.
والتحدي الثالث أنه لم يعد أمام الدول والمجتمعات سوى أن تعتمد على ذاتها في إدارة مواردها وتنظيمها وتعظيمها، ثم تنفقها في أولوياتها بلا هدر أو ظلم. وبالطبع، فإن العلاقات الخارجية والجدل حولها ضروريان، لكن لأجل بناء سياسة خارجية مستمدة أساساً من المصالح الوطنية وليس على سبيل التهرب من الشأن الوطني وتبرير إهماله. إذ في المحصلة، فإن الازدهار والتقدم في دولة أخرى لا يعودان بفائدة على البلدان الصديقة إلا بنسبة ضئيلة.
ما نحتاجه بوضوح هو أن ننزع أشواكنا بأيدينا. ولا بأس في أثناء ذلك من الانشغال بشؤون الآخرين وأفراحهم وآلامهم، لكن ليس الاستغراق فيها. وبالطبع فإن ذلك ليس ضد التضامن العربي والعالمي، كما أنه ليس ضد تقديم المساعدة والتأييد الممكنين أو طلب المساعدة من الأصدقاء.
قد لا يكون ثمة إجابة واضحة أو جرى اختبارها في حالة عدم اليقين السائدة وفي مرحلة منقطعة عن الماضي. لكن هناك قواعد صحيحة أو كافية للعمل: ولاية المجتمعات ومشاركتها الفاعلة؛ والحريات؛ والخيال؛ وأن الصواب يُنتج ولا يكتشف، فهو ليس أمرا موجودا نبحث عنه، وإنما أمر نصنعه.