في واقع الأمر، كان بيان البيت الأبيض حول الاستيطان، مخيّباً لتوقعات وآمال ورهانات كل المخاطبين بأول موقف رسمي معلن من جانب الإدارة الأميركية الجديدة، حيال المسألة الأشد حساسية، والأكثر استعصاءً، على طريق إعادة بعث عملية السلام من سباتها العميق؛ يستوي في ذلك العرب والفلسطينيون والإسرائيليون الذين تجرّعوا، بصمت بالغ، خيبة الأمل هذه، وإن كان ذلك بجرعات متفاوتة.
وأحسب أن اليمين الإسرائيلي المتطرف الذي وصف أحد حاخاماته الرئيس ترامب بأنه مبعوث العناية الإلهية للدولة العبرية، كان أكثر الأطراف صدمة بهذا البيان الذي بدا كعلامة تحذير باللون الأصفر، لوّح بها سيد البيت الأبيض أمام ذلك السباق الاستيطاني المحموم، وهذا السعار الذي اجتاح حكومة بنيامين نتنياهو، وفق ما دللت عليه مشاريع بناء 6100 وحدة سكنية خلال الأيام العشرة الأولى من عهد الرئيس الذي بدا كـ”عزيز صهيون”.
نذكر جميعاً أنه حين صوت مجلس الأمن الدولي، قبل أن يغادر باراك أوباما مكتبه البيضاوي بأيام قليلة، على القرار 2334، غرد الرئيس ترامب قائلاً: “اصبري يا إسرائيل، لم يعد يوم العشرين من تشرين الثاني (نوفمبر) بعيداً”. ونذكر أيضاً كيف راجت توقعات مفادها أن اليوم الأول من ولاية ترامب سيشهد توقيع قرار نقل السفارة من تل أبيب إلى القدس، الأمر الذي رفع سقف التوقعات الإسرائيلية إلى حدود تعانق سقف السماء السابعة.
على هذه الخلفية، يمكن تلمس خيبة الأمل الإسرائيلية إزاء ما قاله البيت الأبيض؛ بأن بناء مستوطنات جديدة، أو توسيع القائم منها، قد لا يساعد في تحقيق السلام. وهو ما اعتبرته مصادر إسرائيلية تحذيراً أولياً، ينطوي على لهجة لم تكن متوقعة، بل ومختلفة عما كان يتواتر على لسان المرشح الجمهوري خلال الحملة الانتخابية، وما كان يبديه من تساوق لا حد له مع أحلام إسرائيل التوسعية، ناهيك عن اقتران هذه اللهجة بتراجع ترامب عن حماسته المفرطة حيال نقل السفارة، معطوفاً على قوله إن هذا الموضوع سيبحث في وقت لاحق.
قبل صدور هذا البيان، وفيما كانت إسرائيل تسابق نفسها بنفسها على دروب العربدة الاستيطانية، اعتبر غلاة المستوطنين أن صمت إدارة ترامب على بناء آلاف الوحدات في المستعمرات القائمة، يشي بموافقة ضمنية أميركية، إنْ لم يكن الصمت علامة قبول ورضا، على إسرائيل أن تغتنمها بسرعة قبل أن يبرد حديد الرئيس المندفع، وتضيع هذه الفرصة التي قد لا تتكرر في المدى المنظور، وقد وتتلاشى سانحة ضم المستوطنات حول القدس فوراً، ووضع الجميع أمام أمر واقع.
وفي المقابل، فقد قرأ الفلسطينيون الصمت الأميركي على نحو لا يختلف كثيراً عن القراءة الإسرائيلية، ما أدى إلى زيادة المخاوف وإثارة حفيظة السلطة الوطنية، فدفعت بناطقيها إلى توجيه رسائل علنية، لحضّ إدارة ترامب على فض التباسات صمتها المريب، وذلك حتى لا تؤّول إسرائيل غض البصر الأميركي هذا على أنه تشجيع لغلاة المستوطنين، وتأييد لخططهم المدمرة لكل تسوية محتملة في أي وقت مقبل.
صحيح أن موقف إدارة ترامب هذا أضعفُ من موقف الإدارة الديمقراطية السابقة، وأنه محبط للذين كانوا يتوقعون بياناً أميركياً “من كعب الدست”، إلا أن من الصحيح أيضاً أن هذا الموقف الذي كسر الصمت الأميركي الرهيب، يشير إلى أن الإدارة الجديدة لم تعط شيكاً على بياض، وليست في وارد المصادقة تلقائياً على هذه الأنشطة الاستفزازية، فضلاً عن ان المستوطنات قد برزت، في وقت مبكر، كنقطة خلافية على جدول الأعمال، وأن فيه ما ينطوي على رغبة ترامب المعلنة في تحقيق السلام في عهده، رغم كل ما يحيط بهذه الرغبة من شكوك لها ما يبررها.
لا تعني هذه المقاربة الحذرة أي ترحيب بهذا الموقف الأميركي القابل للنسخ بعد اجتماع ترامب مع نتنياهو في منتصف الشهر الحالي، أو تجيز التعويل عليه من جانب الذين امتلأت كؤوسهم مرارة من الإدارات الأميركية المتعاقبة. مع ذلك، يظل بيان البيت الأبيض حول الاستيطان ينطوي على إشارة تحذير مفادها ألا تتمادى إسرائيل أو تشدّ الحبل أكثر من اللزوم مع إدارة ترامب. وهو بيان وصفته صحيفة “هآرتس” بأنه صيغ بأكف من حرير، وبدبلوماسية وأدب جم.