يتسم خطاب بعض النخبة المصرية المعارضين لاتفاق الحدود الأخير بين السعودية ومصر بسمتين بارزتين. الأولى نفس شعبوي يستنفر الغرائز تحت غطاء «الوطنية». السمة الثانية إنكار عاطفي وعفوي مسبق لإمكان أن ملكية تيران وصنافير تعود إلى السعودية بالفعل. بعبارة أخرى، لا يبني هؤلاء مواقفهم على تحليل متوازن لمعطيات القضية. كل ما في الأمر بالنسبة إليهم، أن ملكية الجزيرتين تعود لمصر، لأنه أمر «استقر في وجدان الشعب المصري» الذي تشرب ذلك، كما يقولون، من مناهج التعليم المصرية. فاتهم أن الشيء نفسه يمكن أن يقال عن الشعب السعودي. فضلاً عن أن وزارة التعليم المصري أكدت بحسب صحيفة “المصري اليوم” أن مناهج التعليم في مصر لم تنسب الجزيرتين لأي دولة.
الغريب في الأمر أن القضاء المصري سار في تناوله لهذه القضية من حيث المضمون على المسار نفسه الذي اتخذته الحملة الإعلامية. هذا ما يفصح عنه حكم المحكمة الإدارية العليا بتاريخ 16 كانون الثاني (يناير) 2017، والذي ألغت بموجبه اتفاق ترسيم الحدود بين السعودية ومصر في نيسان (أبريل) الماضي. فعلت ذلك تعبيراً عن موقف سياسي مسبق وقاطع برفض تبعية جزيرتي تيران وصنافير للسعودية. وجاءت قرائن وأدلة المحكمة التي استندت إليها في أغلبها انتقائية، والبعض منها ليس ذا صلة مباشرة بالقضية المطروحة. كما تجاهلت كل الأدلة والمعطيات المخالفة لموقفها، من خرائط، ومراسلات ووثائق. ولذلك غلب الميل السياسي لقضاة المحكمة على منطوق الحكم وتخريجاته الذي شغل ما يقارب الـ60 صفحة.
أول ما يلفت النظر أن المحكمة انطلقت في مجمل مجادلتها من فرضية مضمرة مسبقاً وبشكل نهائي (مثلها في ذلك مثل الحملة الإعلامية)، وهي أن جزيرتي تيران وصنافير هما جزء لا يتجزأ من الإقليم المصري. بهذا تكون المحكمة نفت الصفة المركزية للقضية وطبيعتها، وهي أنها قضية إقليمية بين دولتين (السعودية ومصر)، وأنها في الوقت نفسه ليست قضية محل تنازع بينهما في أن ملكية الجزيرتين تعود في الأصل للسعودية، وأن حيازة حكومة مصر لهما إنما حصلت بتنازل موقت من الحكومة السعودية استجابة لطلب مصري عام 1950 على خلفية انفجار الصراع العربي – الإسرائيلي آنذاك. ثم تفصح المحكمة عن فرضيتها المسبقة هذه بالقول: «وتسجل المحكمة… أن هذا النزاع هو نزاع وطني خالص (كذا) تتوافر فيه المنازعة الإدارية، وليس نزاعاً دولياً ويفصل فيه القاضي الوطني وفقاً للدستور المصري والقوانين المصرية، ومنظورهما للقوانين الدولية…» (ص 28). المغالطة القانونية واضحة في هذا التوصيف. والسؤال: لماذا فعلت المحكمة ذلك؟ لسببين: الأول أن الاعتراف بالصفة الحقيقية للقضية وبتاريخها يقتضي الرجوع إلى كل المعطيات والوثائق والخرائط ذات الصلة من دون انتقائية أو استثناء. والسبب الثاني أن المحكمة أرادت بهذا التوصيف نفي اختصاص البرلمان المصري في مناقشة اتفاق ترسيم الحدود للمصادقة عليها أو رفضها. وبالتالي حصرت هذا الاختصاص بها هي من دون غيرها، أي بالمحكمة الإدارية العليا ذاتها.
ليس من شأني الدخول في تفاصيل هذا الخلاف القانوني، وأتركه للمتخصصين بالشأن الدستوري المصري. ما يهمني هنا هو الكشف عن النهج الانتقائي المتعمد الذي اتبعته المحكمة لتأكيد فرضيتها، وتبريرها لميلها السياسي بتعسف واضح بأن مصر، كما تقول: «تمتعت عبر تاريخها وعلى اختلاف أنظمتها بأهلية قانونية دولية كاملة تجاه جزيرتي تيران وصنافير، أي بالسيادة الكاملة عليهما… ولم يعترها يوماً ما مانع يمنع من مباشرتها وسيادتها…». إذا كان الأمر كذلك، فلماذا إذاً دأبت الحكومات المصرية منذ العهد الملكي عام 1950، وحتى الآن على تأكيد ملكية السعودية للجزيرتين بوثائق ومراسلات رسمية؟ اختارت المحكمة، أو انتقت أن تتجاهل هذه الحقيقة وكأنه لا وجود لها، ومعها السؤال المترتب عليها الذي يفرضه حكمها المتعسف. هل كانت كل هذه الحكومات، الملكية والجمهورية، إنما تعاكس تاريخ مصر، وتخرق دساتير سنّتها هي، وبشكل متواصل؟ وإذا كان هناك حقاً خرق للدستور طوال تلك العقود، فلماذا التزم القضاء المصري الصمت على ذلك لما يقرب من 70 سنة، ولم يكتشف هذا القضاء حقيقة ما كان يحصل إلا الآن؟ يشير هذا السؤال إلى أن موقف القضاء المصري اختلف من القضية ذاتها اختلافاً شاسعاً مما كان عليه في السابق إلى ما انتهى إليه في الحاضر. وبالتالي إما أن هذا القضاء كان أذعن في العقود السابقة للسلطة التنفيذية لأسباب سياسية، وبالتالي كان موقفه الصامت مسيساً، أو أنه تسيس الآن في الاتجاه المعاكس، أي اتجاه رفض موقف السلطة التنفيذية.
بعد ذلك تحاول المحكمة الفصل بين ملكية الإقليم من ناحية، والسيادة عليه من ناحية أخرى، وذلك بهدف تهميش فكرة الملكية، والتركيز على مظاهر السيادة التي مارستها الحكومة المصرية على الجزيرتين. وهذا إجراء انتقائي آخر. فمع التسليم بالاختلاف بينهما، إلا أن السيادة لا تنفصل دائماً عن الملكية، بل قد تكون تعبيراً عنها. وطالما أن تاريخ مصر الطويل، كما تقول المحكمة، يؤكد بقاء الجزيرتين ضمن الإقليم المصري فلماذا اضطرت المحكمة إلى تهميش الملكية؟ لأنه ليس لدى المحكمة ما تستند إليه إلا مظاهر السيادة المصرية منذ 1950. لكن تهميش الملكية يفرض سؤالاً عن مصدر السيادة التي تعتد بها المحكمة. لأنه إذا كانت الجزيرتان تنتميان لمصر منذ فجر التاريخ، فلماذا احتاج الملك فاروق لإرسال طلب خطي بالموافقة السعودية على الاستيلاء على الجزيرتين؟ ولماذا لم يختلف الموقف الرسمي المصري بعد ثورة يوليو عن موقف الملك من هذه القضية؟ مرة أخرى تعاملت المحكمة مع العلاقة بين الملكية والسيادة في القانون بمنهج انتقائي يهمش أحدهما لمصلحة الآخر، ما يترك كثيراً من الفراغات والأسئلة في حكمها من دون إجابة شافية.
تبرز انتقائية ثالثة وهي استشهاد المحكمة بخطوط الحدود في اتفاق 1906 الذي يعين حدود مصر الشرقية مع الدولة العثمانية، على رغم أن هذا الاتفاق لا يتناول تيران وصنافير. لذلك لجأت المحكمة إلى خريطة العقبة المطبوعة في مصلحة المساحة المصرية عام 1913 لأنها تجعل الجزيرتين ضمن الولاية المصرية وفقاً لخطوط الحدود في اتفاق 1906 كما يقول. وحديث الخرائط، الحديث منها والقديم، لا يؤيد رأي المحكمة، فضلاً عن التاريخ المعاصر لهذه القضية. وأشير هنا إلى «مصور الدول العربية المتحدة»، أي اتحاد سورية ومصر والمملكة اليمنية، الذي طبع في المطبعة الرسمية عام 1958. هذه الخريطة تضع جزيرتي تيران وصنافير ضمن الولاية السعودية. خريطة أخرى (https://www.loc.gov/item/2001624917/) طبعت سنة 1997 من محفوظات مكتبة الكونغرس الأميركية تضع الجزيرتين ضمن الحدود السعودية. بل إن الخرائط الأوروبية القديمة ما بين بداية القرن الـ15 وبداية القرن 19 لا تضع جزيرتي تيران وصنافير فقط ضمن حدود الجزيرة العربية، بل تضع سيناء بكاملها ضمن هذه الحدود. (راجع مجلد هذه الخرائط الذي نشره معهد العالم العربي في باريس عام 2001). هناك خرائط أخرى كثيرة يتضح فيها الشيء ذاته ولا يتسع المجال هنا لاستعراضها. من جانبه يؤكد أستاذ الجيولوجيا المصري المعروف فاروق الباز أن التركيبة الجيولوجية لتيران وصنافير تتطابق مع التركيبة الجيولوجية للجزيرة العربية الآسيوية وليس مع التركيبة ذاتها لأرض مصر الأفريقية. وهذه قرينة أخرى جيولوجية تتجاهلها المحكمة كما تجاهلت غيرها.
بعد ذلك تستعرض المحكمة (ص20-21) خطابات رسمية مصرية تعود لعام 1950 يشير بعضها من دون تأكيد معتبر قانونياً إلى أن الجزيرتين تعودان لمصر، وأخرى لا تشير إلا لتيران وحدها. وهذا استشهاد يكشف عن حال ارتباك لدى البيروقراطية المصرية حيال الموضوع، لأنه يتناقض رأساً مع وثائق مصرية أخرى تقر في شكل مباشر بسعودية الجزيرتين. ولأن المحكمة، كما أشرت، تستند في حكمها في شكل حصري إلى ما تسميه مظاهر السيادة على الجزيرتين كالوجود العسكري أو تفتيش السفن، وأن مصر هي من مارس هذه السيادة، تستنتج من ذلك بأن الجزيرتين تعودان لمصر وليس للسعودية. والسؤال في هذه الحال: ما هو المصدر الشرعي الذي على أساسه مارست مصر مظاهر السيادة هذه؟ هل هو الملكية الطبيعية للجزيرتين؟ أم الإعارة التي بمقتضاها سمحت السعودية لمصر بممارسة هذه المظاهر؟ هذا سؤال آخر تجاهلته المحكمة. بدلاً من ذلك تلجأ للقول أن عدم وجود «نص في معاهدة أو اتفاق مكتوب بين مصر والسعودية يفيد بأن الأخيرة تنازلت أو سمحت لمصر بالوجود العسكري»، لتخلص منه إلى أن «قواعد القانون الدولي لا تعتد إلا بالاتفاقات المكتوبة والموقعة بين الطرفين…». كان هذا الاستخلاص سيكون صحيحاً لو أن الجزيرتين محل نزاع بين السعودية ومصر. وهما ليستا كذلك. على العكس، هناك توافق متصل لأكثر من 66 سنة بين هاتين الدولتين على أن ملكية الجزيرتين تعود للسعودية.
بناء على كل ذلك، وهو غيض من فيض، يتبين أنه لا الجغرافيا، ولا الجيولوجيا، ولا تاريخ القضية، ولا القانون الدولي، ولا مواقف الحكومات المصرية يسند ادعاء المحكمة بأن مصر تمتعت عبر تاريخها بالسيادة القانونية الكاملة على جزيرتي تيران وصنافير. موقف المحكمة يستدعي موقف الحكومة السورية من قضية مزارع شبعا في الجنوب اللبناني. فسورية تقر بأن هذه المزارع لبنانية، لكنها ترفض تقديم خريطة ووثيقة رسمية بذلك. إشكالية المحكمة أن موقف الحكومة المصرية كما تأكد باتفاق الحدود الأخير على النقيض من موقف الحكومة السورية. وهذا ما يعتد به في المحكمة الدولية وليس موقف المحكمة. وعليه يمكن إعادة صياغة ما قالته عن موقف الحكومة المصرية ليرتد إليها بأنه «إذا أرجعت المحكمة البصر لتقرأ التاريخ، فلن ترى من فطور أو إخلال أو تصدع أو تشقق، ثم إذا أرجعت البصر كرتين في جميع حقب تاريخ مصر (والمنطقة) للقول بمصرية الجزيرتين ينقلب إليها البصر خاسئاً وهو حسير».