دونالد ترامب كان صادقاً مع نفسه في خطاب تنصيبه رئيساً. كرر ما سمعه العالم منه أثناء الحملة الانتخابية وبعدها. لم يتوقف عند الكلام الكثير الذي كشف كماً هائلاً من التناقضات في تصريحاته. ولم يلفته أن مواقف رجال إدارته ومواقفه على طرفي نقيض. لا يريد سوى سماع صوته وتغريداته. أعلن قيام «جماهيريته». وعدد عناوين برنامج عمله. جدد وعوده لإعادة بناء أميركا عظيمة، والاهتمام بالاقتصاد والبنى التحتية للبلاد وتوفير فرص العمل… لكنه في المقابل فتح جبهات حرب في الداخل والخارج. لم يكن متوقعاً بالطبع أن يشرح في كلمته الموجزة بعد أدائه القسم كيف سيترجم سياساته، أو كيف سيفي بوعوده. أولى معاركه في سعيه «نقل السلطة من واشنطن إلى الشعب». وهو شعار من صميم الديموقراطية. ولكن يبدو أنه صمّ أذنيه عن أصوات المتظاهرين الذين نددوا به. ولم يقرأ اللافتات التي رفعت في الطريق إلى مبنى الكابيتول: فاشيون جدد، وعنصريون… ولم يعر اهتماماً لمقاطعي حفلة أدائه القسم، أو للذين شككوا بشرعيته في ضوء التقارير عن تدخل روسيا لمصلحته. ولم يشاهد الحشود الأمنية الاستثنائية التي رافقت حفلة تنصيبه خوفاً من صدامات بين مؤيديه ومعارضيه في الشارع والذين قد يتساوون بالشعبويين. فهم لم يوفروا محلات ومطاعم وسيارات ومعالم من عنف وتحطيم. والأهم من كل ذلك أن الأميركيين الذين وعدهم بإعادة السلطة إليهم لا يرحبون به. فمؤسسات الاستطلاع تتحدث عن شعبيته المتدنية وغير المسبوقة من عقود.
أن يكون هو في طرف المشهد وأكثر من نصف الأميركيين في طرف آخر ليس هو التناقض الوحيد. والحقيقة أنه ليس وحده المسؤول عن الخلل الذي أصاب وحدة بلاده. فالانقسام ليس بين الحزبين الكبيرين فحسب، بل بين مكونات الشعب وأعراقه وألوانه المتعددة. وهو بدأ يتعمق منذ رئاسة جورج بوش الابن. ولم ينجح خلفه باراك أوباما في ردم الهوة التي ازدادت اتساعاً. ولا تبشر المواقف التي أطلقها ترامب قبل دخوله البيت الأبيض بالقدرة على تجسير هذه الهوة، إن أطلق في خطابه دعوة تصالحية لجميع مواطنيه. لعل أول معاركه ستكون مع الطبقة السياسية الحاكمة والنخبة وشبكة المصالح المرتبطة بها أو ما سماها المجموعة الصغيرة التي حصدت الفوائد ولم تشاركها الغالبية الثروة. والحقيقة أن الذين يتوعدونه أو ينعتونه بأنه يحارب كل طاحونة هواء يجدها، كما عبر السيناتور جون ماكين، هم مسؤولون عن وصوله إلى البيت الأبيض. النظام السياسي والاقتصادي برمته مسؤول أيضاً. هذه الشعبوية التي طغت أصواتها ورفعته إلى البيت الأبيض تيار لا يستهان به. هذا التفاوت الشاسع بين أهل المدن وسكان الأرياف وهجرة المصانع وإقفال بعضها، والذهاب بعيداً في التجارة الحرة وعولمة كل شيء مسؤولة أيضاً. ومثلها الحروب الاستباقية والانخراط في سياسة تغيير الأنظمة كلها لم تؤد إلى ترنح الاقتصاد الأميركي فحسب بل كانت هزيمة صارخة للمحافظين الجدد والليبراليين الجدد أيضاً.
لكن أولويات الرئيس ترامب التي عددها في خطابه لن يكون إنجازها سهلاً. الرؤية الجديدة التي بشّر بها ستعترضها عقبات جمة. في الشق الداخلي قد لا يواجه معارضة كبيرة في الكونغرس لقراراته الاقتصادية ولمعالجة مشكلة الهجرة غير المشروعة أو حتى لبناء الجدار مع المكسيك. لكن مسيرة تعامله مع النخب السياسية في الحزبين الديموقراطي والجمهوري لن تكون معبدة وسهلة، حتى وإن كان حزبه يسيطر على غرفتي الكونغرس. فللحزب حساباته من أجل الحفاظ على جمهوره والحفاظ على موقعه في السلطة. لذلك سيشكل بعض أقطاب الجمهوريين سداً بوجهه وعلى رأسهم جون ماكين، فضلاً عن الديموقراطيين وطبقة واسعة من النخب الاقتصادية والثقافية والفنية. أما وعده بإعادة النظر في منظومة عمل المصانع وفي اتفاقات التجارة الحرة فلن يكون سهل التحقيق. الأمر يشبه مقاومة العولمة أو ثورة التكنولوجيا التي حرمت الحكومات الكثير من امتيازاتها مثلما حرمت طبقات وشباباً من فرص العمل. إضافة إلى أن الصين المعنية الأساس بهذا الأمر فلن يكون التفاوض معها بلا أثمان وتضحيات. هدد بقطع دابر الجريمة والعصابات وتجار المخدرات. لكن حظه لن يكون أفضل من حظ سابقيه ممن سكنوا البيت الأبيض.
في السياسة الخارجية، وضع محاربة الإرهاب الإسلامي المتشدد في رأس القائمة. تستدعي هذه الحرب تحالفات وصفقات واتفاقات تعاون مع الدول الكبرى والإقليمية. لكن التعاون ستعترضه سياسات مختلفة ومتناقضة أو متناحرة حتى. كيف يمكن مثلاً التعاون مع أوروبا في هذه الحرب وهي يتوقع تفكك اتحاد القارة العجوز وينعى حلف «الناتو» الذي توكأت عليه بلاده في أفغانستان والعراق وأماكن أخرى؟ وكيف التعاون مع باكستان مثلاً فيما العلاقات بين أميركا والهند تثير حفيظة باكستان؟ وكيف التعاون مع تركيا فيما البنتاغون يعتمد على الكرد في سورية والعراق بمواجهة «داعش» ومثيلاته، وأنقرة ترسم سياسات بعيداً عن الشريك التقليدي؟ الانحياز إلى أنقرة أو الاعتماد عليها سيكون بالتأكيد على حساب تطلعات الأكراد. وعد بتعزيز التحالفات القديمة وببناء تحالفات جديدة. ولكن كيف يمكنه مثلاً إحياء علاقات تقليدية سليمة مع قوى وازنة في العالمين العربي والإسلامي إذا أقدم على نقل السفارة الأميركية من تل أبيب إلى القدس؟ مثل هذه الخطوة ستضعف أيضاً حربه على الإرهاب. وستثير غضباً واسعاً في هذين الشارعين وتعرّض مصالح الولايات المتحدة للخطر، وتعزز آلة الإرهابيين لاستقطاب المزيد من «الجهاديين». وهل يمكنه الوقوف بوجه العالم الذي تمسك في باريس قبل أيام بحل الدولتين؟ وهل يمكنه التخلي عن «الناتو» ليفتح ساحة أوروبا وغيرها من الساحات أمام نهم الرئيس فلاديمير بوتين الذي أفاد من انفكاء إدارة الرئيس أوباما وعزوفها عن التدخل، فاقتطع شبه جزيرة القرم، ويحرك الانفصاليين في دونباس شرق أوكرانيا ويهدد دولاً في الفضاء القريب من روسيا؟ وكيف يمكنه اعتماد شراكة موضوعية ومنصفة أو لنقل سياسة مختلفة في سورية التي بنى فيها الكرملين قواعد ثابتة تشكل نقطة انطلاق إلى الشرق الأوسط كله؟ أما أن يعيد النظر في الاتفاق النووي مع إيران أو مواجهة تمددها شرقاً وغرباً فمسألة أكثر تعقيداً من إطلاق الأوصاف على الاتفاق والتهديد بتمزيقه. وتصحيح الخلل الذي أصاب علاقات واشنطن بعواصم الخليج وقوى عربية أخرى بسبب اندفاع أوباما نحو طهران يستدعي جهوداً جبارة. إحياء الصيغة القديمة التي كانت أيام الشاه في الخليج مثلاً عفّى عليها الزمن. فإيران تبدلت ومثلها دول الخليج.
تبدو الوقائع أكثر تعقيداً، والتحديات عصية على المواجهة. من حقه أن يرفع شعار أميركا أولاً. وهي كانت قبله كذلك بالنسبة إلى أسلافه. ومن حقه التشديد على مصالح بلاده. ولعله مصيب في التخلي عن فكرة تعميم الديموقراطية أو تعميم النموذج الأميركي الذي تحمس له المحافظون الجدد والليبراليون الجدد والعالم يشاهد ما حل ويحل بالعالم العربي مثلاً من حروب أهلية وانبعاث شيطان الطوائف والمذاهب والعرقيات. أما بناء علاقات تعاون مع روسيا – بوتين فلا نعرف كيف سيوفق الرئيس ترامب بين موقفه وموقف صقوره من جنرالات وغيرهم الذين يرون إلى روسيا خطراً مثلها مثل إيران. إنه موقف وزير الدفاع الجديد الجنرال جيمس ماتيس ومديري الاستخبارات مايكل بومبيو ودان كوس، فضلاً عن شريحة وازنة من صقور الجمهوريين والديموقراطيين أيضاً. بالأمس كان جو بايدن نائب الرئيس السابق كان ينادي من كييف بمواجهة العدوان الروسي. قد لا يتكمن ترامب من تجاهل توصيات «السي آي إي» وتقارير أركانه ودوائره. استخباراته تؤكد أهمية الحفاظ على «الناتو» والتأهب الدفاعي بوجه روسيا لمواجهة أخطار نفوذها وتمددها. وتتمسك بالعلاقات المتينة عبر الأطلسي والشراكة مع الاتحاد الأوروبي. وتخشى كثيراً من تداعيات نقل السفارة الأميركية إلى القدس. وتعلق أهمية كبيرة على العلاقات مع دول الخليج وغيره من دول عربية.
إذا كان الرئيس ترامب براغماتياً، كما يوصف رجال الأعمال عادة، فقد لا يجد مناصاً من الاستماع إلى أركان إدارته ومستشاريه من ذوي الخبرة في الدفاع والأمن. وإذا كان ينوي فعلاً إحياء التحالفات التقليدية لأميركا مع الخارج فلا بد من تبديل الموقف من «الناتو» والاتحاد الأوروبي ومن كثير من الدول العربية وغيرها من قوى. ولا بد من سياسة واقعية في التعامل مع الصين وروسيا وغيرهما من قوى إقليمية كبرى. ولى زمن احتكار الكبار أو الولايات المتحدة وحدها أسباب القوة وسلطة فرض سياساتها على العالم. فهل يستطيع الرئيس الجديد أن يقدم نموذجاً أميركياً جاذباً كما قال في خطاب التنصيب أم أنه سيفتح جبهات في الداخل والخارج ويشعل حروباً لا تشبه بالتأكيد حروب دون كيشوت بوجه طواحين الهواء؟ صدق السيناتور ماكين بوصف حروب ترامب لكنه ربما تناسى أنه رئيس أكبر دولة في العالم وبيده قرار أكبر قوة اقتصادية وقوة عسكرية، وحروبه إذا أشعلها ستطحن الأخضر واليابس! ويخشى أن يتجاهل ترامب أن «رؤيته» للعالم قد يستحيل فرضها مثلما يستحيل عليه تالياً أن يقرر وحده صورة النظام الدولي الجديد…