يتراءى للبعض أن واحداُ من الأسباب الرئيسية التي تؤدي إلى تعثر الإصلاح يعود إلى غياب الأفكار التي يمكن أن تبنى عليها البرامج الناجحة. وان المنطقة العربية ونحن منها أصبحت تعتمد تماماً على المؤسسات الدولية في صياغة برامجها، سواء في الإصلاح المالي أو الاقتصادي، أو تطوير التعليم، أو تحسين حالة المياه أوحقوق الإنسان،أو اي موضوع أخر. والسؤال :”الا يوجد لدينا مفكرون وخبراء قادرون على استنباط الحلول وابداع البدائل الجديدة “ ؟كما فعلت دول قبلنا مثل الصين وكوريا وسنغافورة وماليزيا ؟ أين العقول الوطنية والعربية ؟ وأين يذهب التعليم ،ولدينا مئات الآلاف من خريجي الجامعات وعشرات الآلاف من الأساتذة الجامعيين ؟ لماذا يستطيع باحث في البنك الدولي وصندق النقد الدولي أن يصنع نموذجاً سرعان ما تلتزم به الحكومات ، ولا يستطيع المفكرون ومراكز الأبحاث في الوطن التقدم بمثل ذلك ؟
وحقيقة الأمر ،إن البلاد لديها من المفكرين والخبراء والعلماء ومراكز الخبرة ما يكفي لتزويد ماكنة الإصلاح بالوقود اللازم لها. ولكن المشكلة الكبرى أن هذه الماكنة تقع تحت ولاية الدولة ومسؤوليتها ،و هذا طبيعي، في عين الوقت الذي يطغى وينتشر عدم الاستعداد لدى أجهزة الدولة الإدارية لتحمل مسؤولية الإصلاح و مشقة التغيير، الا في أضيق الحدود.
فكم مرة دعا الملك إلى وضع حد للفساد المالي و الإداري؟ و كم مرة دعا إلى دولة القانون و المؤسسات و الديموقراطية، و الحداثة و نزاهة الانتخابات و المساءلة و الشفافية؟ و كم مرة دعا إلى الإصلاح الاقتصادي الفعال ليشعر به المواطن؟ وكم مرةطالب ببرامج لمواجهة الفقر و البطالة و تنمية المحافظات؟ و لكن الاستجابة من الإدارات في كل مرة كانت أقل من متواضعة.
و من جانب آخر ،كانت هناك لجنة الميثاق الوطني ،التي شاركت فيها جميع القوى السياسية والمدنية والمستقلة، و خرجت بميثاق كان عليه توافق وطني واسع، ،وتلاها بعد ذلك برامج تفصيلية عديدة ومتنوعة مثل كلنا الأردن ،والأجندة الوطنية، والأردن 2025، وغيرها. هذا عدا عن اللجان والهيئات القطاعية في الطاقة والمياه والتعليم والزراعة والقوى البشرية والصناعة وسواها، و مئات الدراسات وآلاف الاقتراحات الفردية التي يقدمها الخبراء والسياسيون والمواطنون ومنظمات المجتمع المدني والأحزاب.وهي في كثير من الأحيان تتضمن أفكاراً ناضحة وحلولاً عملية يمكن البناء عليها و السير فيها. ولكن في كل مرة ما أن يتم تسليم التقرير النهائي للحكومة و ربما يتم الاحتفال بذلك، يأخذ الاهتمام بموضوع الإصلاح بالتراجع، و يأخذ الاندفاعبالخفوت، وتتحرك التقارير والاستراتيجيات والمقترحات والبرامج إلى رفوف النسيان. حتى الأوراق والرسائل والتوجيهات الملكية تكاد تلقى نفس المصير . و بعد زمن ،نبدأ دورة جديدة تحت عنوان جديد. وهكذا تمر السنون، والجميع ينتظر الإصلاح الشامل العميق الذي يشعر به كل مواطن ،و لكن لا يتحقق الا الجزء الضئيل الذي لا يتناسب أبداً مع عمق المشكلات من جهة، و مع سرعة تتابع الاحداث ،وسرعة تطور العلم و التكنولوجيا، و تغير الاقليم والعالم، من جهة ثانية .
و تجادل الإدارات بأننا نقوم بإصلاحات و لا بنبغي إنكارها. نعم نحن نقوم بخطوات اصلاحية هنا و هناك كل فترة وأخرى ، ولكن من الجانب العملي فإن عمق و سرعة التغييرات فينا و حولنا و في العالم، تجعل هذه الخطوات بطيئة ومتأخرة ، و ضئيلة الجدوى،و لا تغير شيئا.و يستمر المواطن بالمعاناة.
إن الإشكال الحقيقي يتمثل في غياب “ مشروع الإصلاح الوطني “ وهو “المشروع الذي تتبناه الدولة وتلتزم به للانتقال من مرحلة إلى أخرى”. و هو مشروع ،يفترض أن يتفهمه كل موظف في الدولة، يتضمن الابعاد السياسية والاقتصادية والعلمية والتعليمية و الإنسانية لأنه يهدف إلى نقل الدولة بأكملها إلى موقع جديد. وغياب المشروع الوطني يعود في أحد أسبابه لعدم قناعة أجهزة الدولة بضرورته من جانب، وعدم استعدادها لتحمل أعبائه من جانب ثان، و تغييب القوى السياسية والأحزاب ومنظمات المجتمع المدني في صناعته من جانب ثالث . وهذا يولد شعوراً داخليا بالخوف أو التخوف من الإصلاح الشامل. وبدلاً عنه تلجأ الإدارة إلى اصلاحات جزئية هنا وهناك . لقد تغيرت الأوضاع في ماليزيا مثلا لأنه كان هناك مشروع توافقت عليه الأحزاب، وكذلك الأمر في سنغافورة وفي كل بلد من البلدان التي نجحت في التحولات الجذرية اللازمة . والسؤال : متى تنفض الحكومة غبار التراخي عن أجهزتها الإدارية،و تتبنى الدولة “مشروعا وطنيا للاصلاح”، تتوافق فيه مع مجلس الأمة والقوى السياسية والمدنية والقطاع الأهلي و الخاص، ويلتزم به الجميع؟ ذلك هو سؤال الحاضر والمستقبل.و ذلك هو الطريق لاستعادة ثقة المواطن بالإدارة، واستعداده للمساهمة بأفضل ما لديه.