لم يفشِ إمام الحضرة الهاشمية، قاضي القضاة، سماحة الشيخ أحمد هليّل، سراً بقوله في خطبة يوم الجمعة الماضي، إن الأردن يمرّ في أزمة مالية خانقة، داعياً دول الخليج العربية إلى أن تهبّ لنجدته. فقد بات معروفاً أن التحدي الاقتصادي هو المشكلة الأكبر التي تمر فيها المملكة.
وما خطب به هليل هو، أساساً، إعلان غير مباشر بتوقف المنح العربية، الأمر الذي يزيد من تعقيد المشكلة ويعمقها، خصوصاً أن الموازنة العامة اعتمدت خلال السنوات الماضية على المنحة الخليجية في تمويل النفقات الرأسمالية.
لكن ما أخطأ فيه سماحته، هو استخدامه منبراً دينياً لطلب عون الأردن ومساعدته قبل فوات الأوان؛ وبأسلوب استفزّ الأردنيين، ومنهم مسؤولون، رغم أنهم يدركون مدى الحاجة إلى مثل هذه الأموال في ظل الظرف الصعب. ولتكون النتيجة تعرّض الشيخ للهجوم بوابل من ردات الفعل المتوقعة لمن يعرف طبيعة المجتمع الأردني المعتز بنفسه. كما استثارت الخطبة هجوماً من نشطاء التواصل الاجتماعي في دول خليجية؛ تساءلوا عن مصير الأموال التي تقدمها دولهم للأردن، وسط اتهامات للحكومات بإضاعة المال وهدره. علماً أن ما قدّمته دول الخليج للأردن ليس منّة كما يظن البعض، بل هو حق له؛ لدوره الجيوسياسي المهم في مختلف الملفات الشائكة التي تعاني منها المنطقة، وعلى رأسها الحرب على الإرهاب.
ما قاله هليل أمر يفكر فيه كثير من السياسيين، لكن “ما هكذا تورد الإبل”. وقد بدا مصدر حكومي مسؤول متضايقاً من الخطبة، مؤكداً أنه لم يُطلَب من سماحته قول ما قاله، وهو بذلك يعبر عن رأيه الشخصي فقط.
إدارة ملف المنح والمساعدات التي طالما اعتمد عليها البلد، له وزراء معنيون؛ تحديداً وزير الخارجية وشؤون المغتربين ووزير التخطيط والتعاون الدولي ورئيس الوزراء. وقد يرتفع المستوى، تبعا لحجم الملف وما تقتضيه الحاجة، كما أن التعامل مع هذا الأمر يتم عبر قنوات السياسة والدبلوماسية؛ بعيداً عن الأضواء، وليس على منابر المساجد.
مع ذلك، فإن هذه الخطبة الإشكالية تثير الحوار، مرة أخرى، بشأن مبدأ الاعتماد على الآخر. وهو الباب الذي إنْ لم نغلقه بإرادتنا، فقد تغلقه الدول المانحة بقرارها المنفرد. وهو ما تبدو نذره في الحديث عن عدم تجديد المنحة الخليجية التي بلغت قيمتها 4 مليارات دولار (بعد عدم وفاء دولة قطر بالتزامها البالغ مليار دولار)؛ فحصل الأردن على مليار دولار سنويا منذ العام 2012.
وتبرر دول الخليج عدم تجديد المنحة بالأوضاع الاقتصادية التي تمر فيها؛ نتيجة تراجع أسعار النفط بدرجة رئيسة، مقابل ارتفاع إنفاقها العسكري. لكنه مبرر غير مقنع، لأن مئات ملايين الدولارات لا تكاد تعني شيئاً لاقتصادات هذه الدول بإيراداتها الضخمة المقدرة بمئات المليارات.
في السياق ذاته، يلزم أيضاً التوقف عند تصريحات الرئيس الأميركي الجديد دونالد ترامب. إذ قال في خطاب ما بعد التنصيب إن بلاده دفعت كثيراً من الأموال في الخارج ولم تستفد منها. فهذا كلام مريب من رئيس لا يمكن التكهن بقراراته، ولا سيما تلك المتعلقة بمنطقتنا، في وقت يحتل الأردن المرتبة الثانية ضمن أعلى الدول تلقياً للمساعدات من الولايات المتحدة الأميركية، والتي تحتل، من زاوية أخرى، المرتبة الأولى بين الدول المانحة للمملكة.
هكذا، تكون النتيجة الواقعية، ولربما الوحيدة لكل ما سبق، هي ضرورة تبني الحكومات والمؤسسات الأخرى مبدأ الاعتماد على الذات؛ فكراً وعملاً. وإن لم يقتنع المسؤولون بهذا المبدأ، أو ظنوا تطبيقه صعباً، فيكون من المفيد الربط بين السياسة الخارجية والمنافع والنتائج المترتبة عليها لصالح الأردن. وقياس ذلك بموضوعية قد يدفع الأردن إلى تحوّل، أو أقلها استدارة بشأن ترتيب علاقاته الخارجية، خدمة لمصالحنا الوطنية.