ارتفعت وتيرة ردود الفعل مباشرة (على مواقع التواصل الاجتماعي) على تصريحات وزير المالية، حتى بعد استدراك رئيس الوزراء عليها، بخصوص إجراءات تدبير 450 مليون دينار في مشروع قانون الموازنة العامة لسنة 2017.
الإجراءات تشمل رفع ضريبة المبيعات وتوحيدها على جملة من السلع، ورفع بعض الرسوم، مثل رسوم جوازات السفر. فيما استبعد رئيس الوزراء ما صرّح به وزير المالية من إلغاء الدعم لأسطوانة الغاز، مع شمول القرار أسعار بعض المحروقات، وإلغاء جملة من الإعفاءات الضريبية وإعادة هيكلة الإعفاءات الصحية.
المسؤولون الحكوميون يقولون إن هذا ما يمكن أن يقوموا به لحماية الموازنة وتوفير الدخل، والتعامل مع الأزمة المالية الراهنة، ولا يرون طريقاً أخرى للجم العجز وإيقاف المديونية عند حدّ 94 % من الناتج المحلي الإجمالي. ويشتكون دائماً من أنّ المزاج الاجتماعي العام سلبي تجاه الإجراءات الحكومية، وأنّ الناس لا يقدّرون حجم الأزمة المالية الخطرة التي تمرّ فيها البلاد، في ظل الظروف الاقتصادية الراهنة.
ذلك صحيح! هناك مزاج اجتماعي عام سلبي، بالفعل. وبالضرورة، فإنّ الظروف الاقتصادية تؤثّر كثيراً على الشريحة العامة من المواطنين، مع ارتفاع معدّلات البطالة إلى درجة كبيرة وفق القراءات الرسمية، بحيث وصلت 14 % في العام الماضي، وفي قطاع الشباب بلغت (وفق بعض التقديرات) 40 %.
مع ذلك، وعلى الرغم من تقدير الوطأة الثقيلة للظروف الاقتصادية على المزاج الاجتماعي، إلا أنّ ما يؤثّر أكثر عليه، ويمثل اليوم نقطة الضعف الكبيرة في السياسات الرسمية، وأصبحت أكثر سفوراً ووضوحاً مع حكومة د. هاني الملقي، هي غياب الماكينة السياسية للحكومة عن المشهد كليةً؛ وكأنّ الحكومة ترمي بكرة القرارات الاقتصادية القاسية للناس من دون أي تفسير أو إيضاح، وتطالبهم بالتعامل معها، وتقبلها وشكر الحكومة على المهمات العظيمة التي تقوم بها!
حجم الاستهتار بالدور السياسي والتواصل مع الرأي العام من قبل رئيس الوزراء، لا يصدّق، وغير منطقي؛ ما قد ينعكس على شعور المواطنين بدرجة كبيرة من الاستهتار الحكومي بالرأي العام وبردود الفعل الغاضبة التي قد تحدث. وربما لم يسبق لي أن رأيت حكومة تعاملت بهذه الطريقة السياسية السلبية مع الرأي العام مثل حكومة الملقي!
لم يكن هناك أي تحضير، ولا حتى اتصال مباشر مع كتّاب الأعمدة ووسائل الإعلام؛ ولم تجر محاولات تفسير جانبية وتوضيح للأوضاع الاقتصادية وكيفية التعامل معها. فثمّة غياب كامل للمطبخين السياسي والاقتصادي عن المشهد، ويكتفيان بالتفاوض الجانبي، غير المعلن، مع النواب واللجنة المالية فيما يخص الموازنة!
إذا لم تتحدث الحكومة إلى الرأي العام وتحرّك ماكينتها السياسية؛ وإذا لم يحضّر الفريق الاقتصادي مرافعته للنواب والرأي العام بشأن وضع الصورة الحقيقية للأوضاع الاقتصادية والمالية، فمن سيقوم بهذه المهمة؟!
بالطبع، ذلك لا يعني أنّ المشكلة تقف عند الاشتباك السياسي والمرافعة الاقتصادية-الإعلامية، والاشتباك مع الرأي العام؛ بل هناك معضلات حقيقية متعلّقة بالحاكمية والشفافية، وعدم اجتراح المعادلة التي توازن بين تعزيز القطاع الخاص والاستثمار من جهة وتصليب عود الطبقة الوسطى، وحماية الطبقة الفقيرة من جهة أخرى، وبين الحرية الاقتصادية والعدالة الاجتماعية؛ فما تزال هوية الاقتصاد الوطني ملتبسة، لا تقوم على أسس عميقة واضحة.