عروبة الإخباري- كنا في معتقل دمنهور الشديد الحراسة، في دلتا مصر، وكان الأطباء يأتوننا من مستشفى دمنهور العام. كان أكثرهم اهتماماً بالمرضى من المعتقلين الطبيب أليكس؛ أخصائي الباطنة الذي كان يُحضر أدوية للمعتقلين من عينات عيادته المجانية. أما الدكتور عزت نصيف؛ استشاري العيون فقد استجاب رغبة المعتقلين في إحضار جهاز كشف النظارات الطبية بالكومبيوتر الذي كان يخص كنيسة دمنهور، بعد أن استأذن الأنبا باخوميوس، وحاولتُ أن أدفع للطبيب مقابلاً لفحصه مئات المعتقلين لأنه ليس جزءاً من عمله، فرفض بإباء.
بعد تفجير الكنيسة البطرسية في حي العباسية في القاهرة؛ هاتفتُ صديقي القس باقي صدقة؛ رأس الكنيسة الإنجيلية في الصعيد، والذي جاوز الخامسة والثمانين لمواساته فقال لي: «ينبغي على أتباع الرسل وأهل الأديان أن يكون لهم رصيد من الغفران يتسع لإساءات الآخرين، وعليهم أن يقدموا هذا الغفران للمسيئين إليهم حتى قبل أن يقعوا في الإساءة وما بعدها ويواصلوا غفرانهم حتى يتوقف المسيئون عن حماقاتهم، لا لأنهم تغيروا إلى الأحسن، ولكن ليحرموا أهل التغافر لذة الغفران».
هذه الرموز الثلاثة التي أعرفها طويلاً وكلها متعمق في الدين المسيحي أراها تمثل المسيحيين المصريين والعرب بحق، فالمسيحيون العرب هم أكثر العرب تسامحاً ورحمة وشفقة ومحبة لأوطانهم ومحبة للمسلمين ومساهمة في الحضارة العربية والإسلامية، وهم الوحيدون الذين لا يحبون «الكانتونات» وليست لديهم نزعات انفصالية، ولا يحبون تكوين الميليشيات المسلحة؛ باستثناء واحدة هي ميليشيا «حزب الكتائب»، فبعض الأكراد يرغب في الانفصال، والوثنيون الأفارقة في جنوب السودان انفصلوا عن الشمال، أما المسيحيون في كل بلاد العرب فهم يحبون الاندماج في مجتمعاتهم وينجحون فيها.
المسيحيون العرب يتعرض بعضهم الآن للمضايقات والأذى، فبعضهم طردوا من بيوتهم بطريقة مباشرة أو غير مباشرة، وبعضهم تُفجَّر كنائسهم مثلما حدث في العراق، فقد اتجه التكفيريون مثل «داعش» و «القاعدة» إلى تفجير الكنائس، أو حرق بعض بيوت المسيحيين أو محاولة إجبارهم على دخول الإسلام أو الانضمام إلى التنظيم، والإسلام – وكذلك كل الأديان – يأبى أن يدخل فيه الناس كرهاً.
أما في مصر، فقد حدثت كارثتان خطيرتان للمسيحيين؛ أولاهما حرق أكثر من 60 كنيسة عقب فض اعتصام «رابعة العدوية» لجماعة «الإخوان المسلمين» بالقوة المفرطة التي أوقعت مئات القتلى وآلاف الجرحى من المعتصمين، وثانيهما تفجير الكنيسة «البطرسية»، الذي قتل فيه 27؛ غالبيتهم نساء وأطفال. وكلا الحادثين شاذ، ويعتبران استثناءً في تاريخ المسيحيين المصريين، فضلاً عن حوادث طائفية متفرقة نتيجة نزاعات قروية شبه متكررة كل ثلاثة أعوام تقريباً؛ في مصر. لكن حرق أو تفجير الكنائس يعد نقلة إلى الأسوأ في التاريخ المصري، ولعل الصراعات السياسية وانتشار فكر الدواعش، فضلاً عن أسباب دينية واجتماعية واقتصادية وسياسية أخرى؛ تعد أسباباً لمثل هذه الأحداث الخطيرة الغريبة على مصر.
المسيحيون العرب جزء لا يتجزأ من الحضارة العربية والإسلامية ومكون أساسي من مكونات العروبة والشرق، وإسهاماتهم في بناء تلك الحضارة لا ينكرها إلا جاحد. فإذا أردت أن تعرف نموذج المسيحي العربي، يمكنك أن تراه في الدكتور مجدي يعقوب؛ عبقري وأسطورة جراحة القلب العالمي؛ الذي أصرَّ على العودة إلى مصر وبناء مستشفى خيري يخدم الفقراء جميعاً؛ مسلمين ومسيحيين؛ بلا تفرقة، والدكتور وسيم السيسي؛ الجراح الذي تعمق في دراسة المصريات والتاريخ الإسلامي أيضاً. إذا أردتَ أن تعرفه، فيمكنك أن تراه في «الشاعر القروي» رشيد سليم الخوري، الذي كانوا يطلقون عليه «قديس الوحدة العربية»، والذي مدح رسول الله كثيراً، وهو المعروف بقوله عن العروبة: «أن يشعر اللبناني أن له زحلة في الطائف، ويشعر العراقي أن له فراتاً في النيل، فهي دم زكي يجري في عروق الجسد الواحد»، ومن أقواله: «الإسلام حمى اللغة العربية والقومية من الاندثار»، وقد أوصى قبل موته أن يصلى عليه شيخٌ وقسيس.
تلك النماذج تراها في آلاف الأطباء أو الصيادلة أو المدرسين الذين قدموا العلاج والجراحات أو الدروس المجانية لفقراء ويتامى المسلمين، أو في أثرياء مسيحيين أعانوا فقراء من المسلمين أو العكس. وهذا مكرم عبيد في شبابه يتبناه سعد زغلول ويعيش معه، فيظن الجميع أنه ابنه لشدة ارتباطه به، وهو الذي دافع عن كل القضايا الوطنية سياسياً وقضائياً كأبرع محام سواء كان المتهم مسلماً أم مسيحياً، وهو الوحيد الذي سار في جنازة الشيخ حسن البنا من غير أسرته، وهذه جرأة فريدة لم تؤتَ لغيره. وهذا الشيخ عبد الباسط عبد الصمد كان إذا سافر إلى لبنان لا يذهب إلى مكان حتى يحل ضيفاً على صديقه التاجر المسيحي، وكان المفتي حسنين مخلوف إذا نزل جِرجا؛ يبيت في غرفة أعدَّها خصيصاً له فخري باشا عبد النور وكان يغضب إذا لم يقصدها.
وكان هناك رواق كامل في الأزهر يسمي «رواق الأقباط»؛ مثل رواق الشوام والمغاربة وغيرهما، وكان يسكنه الطلاب الأقباط الذين وفدوا إلى الأزهر لدراسة اللغة العربية وآدابها أو علوم الشريعة أو الفلسفة الإسلامية، وكان أحد رموز التعددية التي كانت تميز أمتنا وأزهرنا وأوطاننا على الأمم الأخرى. أما دروس الإمام محمد عبده في تفسير القرآن، فكانت مقصداً للطوائف المسلمة وغير المسلمة، فكان يحضرها أنطون جميل؛ رئيس تحرير «الأهرام»، مع عشرات المسيحيين الآخرين ومنهم الشعراء والأدباء والعلماء. وقد رثى الشيخ محمد عبده 23 شاعراً مسيحياً؛ منهم تلميذه رياض سوريال الذي خصَّه بقصيدتين، ورفض أن يعيش في القاهرة بعد وفاة أستاذه ليعيش في بلدته منفلوط. وقد تخرج من رواق الأزهر صحافيون ورؤساء تحرير مسيحيون بارزون في حقب الثلاثينات والأربعينات والخمسينات.
أما إسهام المسيحيين المصريين في بناء المساجد، فهو أكثر من أن يعد، وكان من عادة الباشوات المسيحيين بناء كنيسة ومسجد على نفقتهم الخاصة كل في دائرته، وكان المسلمون يتبادلون مع المسيحيين التبرع للكنائس والمساجد عند بنائها، ولم يجد بعضهم غضاضة في ذلك، على رغم أن كل هذه المظاهر قد اختفى معظمها الآن. وتشارَك المسلمون والمسيحيون في كل الثورات والحروب التي مرت على مصر، وكان منهم قادة بارزون في حرب 1973 مثل المقدم باقي زكي الذي اخترع طريقة إزالة الساتر الترابي لخط بارليف، والفريق فؤاد عزيز غالي؛ قائد فرقة المشاة ثم قائد الجيش الثاني الميداني.(الحياة)
* قيادي سابق في «الجماعة الإسلامية» المصرية