ستنتاب كثيرين منا، نحن السوريين، نشوة الانتصار، بعد انعطاف الأحداث نحو وقف شامل لإطلاق النار، بدل ذهابها إلى خيار نقيض، كان يبدو حتمياً وممكناً، هو انتزاع إدلب من أيدي الذين تجمعوا فيها من المقاتلين، واستكمال ما بدأه الروس والإيرانيون، قبل عام ونيف، ضد المعارضة المسلحة، وأدى إلى هزيمتها في حلب، حتى بدا وكأن ما سماها قادة الفصائل “ملحمة حلب الكبرى” التي وعدوا أن تحرّرها غرباً، وتفك الحصار عنها شرقاً، ستكون المشهد ما قبل الأخير في اندحار فصائلهم والثورة، بما سيترتب عليه من انكسار معنوي ومادي للمقاتلين ضد النظام والروس والإيرانيين: التحالف المعادي الذاهب نحو انتصارٍ يبدو مؤكّداً.
ما الذي جعل روسيا تتخذ نهجاً مغايراً لتوقعاتٍ بدت حتمية، وتختار الذهاب نحو وقفٍ شامل لإطلاق النار، في لحظةٍ ملائمةٍ جداً لاستمراره؟ هل هي تحسباتها من موقف أميركا بعد أوباما الذي يعد بإجبار إيران على الخروج من المشرق العربي، بما قد يحدثه ذلك من تبدّل في الموازين الأميركية/ الروسية داخل سورية، ومن نتائج سلبية على الأسد ونظامه، مع ما سينتج عنها من أعباء روسية سيكون من الصعب على موسكو مواجهتها، أو إعادة الوضع الذي سينشأ عنها إلى حالٍ قريبةٍ من الوضع الراهن، حيث الكفة راجحةٌ لصالحها، ولصالح الأسد وإيران؟ أم أن السانحة التركية هي ما دفع موسكو إلى القيام بانعطافتها، بينما شجّعتها علاقات أنقرة الخاصة مع معظم الفصائل المقاتلة، وتتبدّى في الحماية التي تقدمها لها، وتجد موسكو نفسها مكرهةً على قبولها، تفادياً لمزيد من انخراط تركيا في الحرب، دفاعاً عنها، باعتبارها مصلحةً قوميةً تركيةً تستحق الحماية بالسلاح، ما دام القضاء عليها يهزم أنقرة في سورية، وينقل مأساتها إليها، ويلزمها بمواجهة مليشيا حزب الاتحاد الديمقراطي (الكردي) و”داعش”، والتغلب عليهما خارج أراضيها بالتعاون مع موسكو، أو مواجهتهما في مدنها وقراها، مع ما يحملانه من مخاطر تفتيتية على كيانها الوطني؟ أم أن روسيا تجد نفسها في أفضل وضع يمكن تصوره بالنسبة إليها، قوةً كبرى، تسير على خيط رفيع ستسقط في الهاوية، إن اختل توازنها الذي يمكن لأي إجراء أميركي أو تركي أو خليجي أن يهدّده بأكثر الصور خطورة، في ظل ضغوطٍ زمنيةٍ، لا تسمح لها بانتظار تطورات محتملة، لن تنفرد بتقرير هويتها؟
مهما كان السبب في انعطافة روسيا عن طريق الحسم، ثمّة ملاحظات حول السياق الراهن، لا بد من قولها، هي باختصار:
أولاً، لا بد من التزام جميع الفصائل المسلحة بوقف إطلاق النار، حتى في حال تعرضت جبهة فتح الشام للقصف الروسي، فالجبهة وضعت نفسها دوماً خارج الثورة وعملت ضدها، ومن الجنون التضحية بالشعب، وبالفرص الضئيلة لحلٍّ ينقذه، من أجل تغطية مواقفها العبثية.
ثانياً، لا بد من عملٍ يجعل وقف إطلاق النار يفضي إلى حل سياسي، يطبق قرار مجلس الأمن 2254، ووثيقة جنيف، مرجعيةً له، يعترف العالم، بما في ذلك روسيا، ويعلن التزامه بها. أما العمل الذي أعنيه فهو ينصبّ على مسألتين هما:
توحيد المعارضة السياسية والعسكرية بكل معنى الكلمة، بما يتجاوز علاقات التكاذب الراهنة التي تحوّل أي لقاء بينهما إلى وحدة تجمعهما، على الرغم مما نعرفه جميعاً عن شبه القطيعة بينهما التي عبّر عنها غياب “الائتلاف” والهيئة العليا للتفاوض عن مؤتمر “المعارضة” الصحافي الذي عقده الأخ أسامه أبا زيد بمفرده، ولم يظهر فيه أي ممثل للمؤسستين السياسيتين، وخصوصاً منهما الهيئة العليا، الجهة المسؤولة عن التفاوض. قد يقول قائل إن مرحلة التفاوض السياسي لم تحن بعد، وهذا صحيح، لكن ذلك لا يسوّغ غياب أي تمثيلٍ سياسي للهيئة عن مفاوضات وقف إطلاق النار، بمدلولها السياسي الواضح.
المسألة الثانية، بلورة موقف حيال التفاوض والحل السياسي موحد إلى أبعد الحدود، تتبناه فصائل المعارضة جميعها، بما أن ما سيحصل عليه السوريون سيتوقف على وحدة الفصائل واحترامها وقف إطلاق النار، وعلى موقفٍ متقدم حول الحل تدعمه وتعزّزه وحدتها التي يجب أن تبادر فوراً إلى إزالة ما في بناها وأوضاعها من عيوب، وترتيب قواها وعلاقاتها بطرق تقنع الطرف الآخر بضرورة قبول حل يتفق مع عديد من مطالبها، وخصوصاً منها مطلب الحرية والحفاظ على وحدة الشعب.
ليس مؤكّداً أن الحل السياسي المنتظر سيكون لصالح الثورة، فإن رفضته قواها، من دون أن تكون قد أصلحت أوضاعها، قدم لها حلاً أشد سوءاً منه، أو واجهت الهزيمة العسكرية. عندئذٍ، سيكون هذا آخر خطأ تقترفه.