ولد «داعش» لأن أشراراً قرروا أن يستثمروا بهزيمة جماعة أهلية، فأحسنوا الاستثمار وأنجبوا هذا الكائن المسخ. واليوم تجري حرب هائلة لهزيمة التنظيم في العراق وفي سورية، لكن حرباً موازية أخرى تجري للإمعان بهزيمة الجماعة الأهلية نفسها. أي أن ما يحصل حرب على «داعش» وحرب لإعادة شروط إنتاجه.
ومن يتوهم أن «داعش» هو ذلك التنظيم المقيم في الموصل أو في الرقة عليه أن ينتظر عشرات الوقائع المشابهة للوقائع التي شهدها الأسبوع المنصرم، بدءاً من مدينة الكرك الأردنية ومروراً بمشهد الشرطي التركي يقتل السفير الروسي ووصولاً إلى مأساة برلين.
ثمة جماعة أهلية، هي الجماعة الأكبر في المنطقة، تتلقى الهزائم على نحو متتالٍ. تم سحق مدينة حلب تحت أنظارها، وفي العراق تشعر هذه الجماعة بأن «الحشد الشعبي» يتأهب للانقضاض عليها فور انتهاء المعركة مع «داعش»، وفي لبنان تتلقى الجماعة نفسها الهزائم تلو الهزائم.
«داعش» ليس تنظيماً عمودياً كحال «القاعدة» مثلاً. وهو بمعنى ما ليس تنظيماً. هو أقرب إلى مشهد وإلى لحظة وإلى اختلال. هو اللحظة التي قرر فيها مولود الطنطاش أن يضغط على زناد مسدسه الموجه إلى رأس السفير الروسي. علماً أن الرجل لا تربطه بـ «داعش» علاقة. هذا أحد مستويات العلاقة مع التنظيم، وهو مستوى يفوق ذلك الذي يشن العالم حرباً عليه في الموصل وفي الرقة وفي الباب، قوة ودموية وذكاء.
لا يبدو مجدياً الجهد الأمني الذي يُبذل لفهم العلاقة بين المنفذين وأجهزة التنظيم، ذاك أن خيطاً واحداً لم يفض إلى نتيجة على هذا الصعيد. لا قيمة للكشف عن مزيد من الخلايا، ولا لتعقب مرتبطين بالمنفذين. الطفلة التي فخخها والدها وفجرها في دمشق، لا علاقة وقائعية وتنظيمية بين والدها ومولود الطنطاش. فقط تجمعهما لحظة ويجمعهما انهيار. الانتقال بالحدث من استقبالنا معناه إلى استقبالنا مشهده. انفجار دمشق كان يمكن أن يكون واحداً من مئات الانفجارات التي تشهدها سورية لو لم تظهر الطفلة المنفذة في فيديو إلى جانب والدها، واغتيال السفير الروسي كان يمكن أن يكون اغتيالاً عادياً لو لم نشاهد وقائعه كاملة على الهواء.
لن يُهزم «داعش» إذا ما سقطت الموصل بيد الجيش العراقي و «الحشد الشعبي» وخبراء المساعدة الأميركيين والإيرانيين. فالموصل أكثر نقاط «داعش» ضعفاً، وكذلك الرقة والباب ودير الزور. «داعش» الآخر أشد ذكاء وقوة، وهو افتراضي بمقدار ما هو حقيقي، وهو أيضاً ذلك المكان المعتم الذي خلفته الهزيمة، فكيف لنا أن نقبض على هذا الوهم؟
على المرء أن يُمعن النظر بشريط اغتيال السفير الروسي في أنقرة. في وجه مولود الطنطاش لحظة استلاله المسدس. لم يكن ما رأيناه حقيقياً. القاتل يشبهنا إلى حد مخيف. يلبس مثلنا، ويعقد ربطة عنقه تماماً كما نفعل في صباحات كثيرة. هزيمته مستحيلة، ذاك أن ثقباً أسود يجمعنا به، أو أنه نحن وقد عجزنا عن التماهي مع الضحية. بهذا المعنى، فإن لـ «داعش» قدرة على إحالتنا إلى مجرمين، وعلى قتل ميلنا الأول للتماهي مع الضحية. وهذا مستوى جديد من الكفاءة التي أنعم بها على «داعش» صمت العالم على الجريمة المجاورة لجريمة الطنطاش.
نعم، تحصل جهود كبيرة لإعادة إنتاج «داعش»، ويتم تحويل التنظيم من «دولة» إلى فكرة وإلى شعور وإلى لحظة. فما يجمع الوقائع التي شهدها الأسبوع الفائت ليس ارتباطها بالتنظيم، إنما اتصال بعضها ببعض عبر فكرة واحدة. خلية الكرك التي تحصنت بقلعة المدينة لم يتوهم أفرادها نصراً، إنما مجرد موت غير اعتيادي، والتونسي منفذ اعتداء برلين لم تساوره شكوك في أنه سيكون أكثر من قاتل أبرياء، ومُفخخ طفلته في دمشق أرادنا من وراء تسجيله الشريط أن نكرهه. الفكرة التي تجمع هذه المشاهد هي أن «المهزوم» قرر أن يذهب بهزيمته إلى أقصاها، وأن يكشف أن الشر مبثوث في أرواح الناس العاديين، وأن لحظة ستبقى تنقصه حتى ينقض على نفسه كما ينقض الهر على أطفاله ليأكلها.
مهمة التنشئة والسياسة هي تنظيم عنف وشر أصلي يولد معنا. هذا من بداهات التحليل النفسي. فماذا لو قلنا أن «داعش» أعطي فرصة تنظيم توظيف هذا الشر. والعالم إذ أعطاه هذه الفرصة لم ينتبه إلى أن المهمة ليست منوطة بتنظيم ودولة ومدينة، وهي لا تحتاج بناء هرمياً وعلاقات أمنية وخلايا نائمة. فنحن هنا نتحدث عن فكرة نائمة، وإيقاظها لا يحتاج إلى أوامر مباشرة وتواصل تنظيمي. سهولة تنفيذ الطنطاش جريمته أوحت بأن أمراً عادياً حصل، ولا يبدو أن الشاب شاور في فعلته غير نفسه. إنه ثقب الهزيمة الأسود الذي لن يتمكن أحد من القبض عليه.
من الصعب أن نتخيل «داعش» بعد الموصل، فالدولة التي ستسقط ستخلف كائناً غير مبلور المعالم. لكن ما لا يجب أن نسقط في وهمه مجدداً هو أن نعتقد أننا انتصرنا على ذلك الشر، إذ إن الأخير حجز مساحات جديدة في نفوسنا جميعاً، وهو سيستأنف انقضاضه علينا من داخلنا، تماماً كما انقض المجرم على وجه مولود الطنطاش في لحظة تسديده مسدسه، وكما انقض والد الطفلة الدمشقية على طفلته فقتلها.
هذه ربما ملامح الوحش الأولى بعد أن يُهزَم في الموصل وفي الرقة. أي أنه سيعود ليحجز مكاناً في وجدان الأبرياء، وأن يصير جزءاً من أنفسهم، تارة ينتصر عليهم وتارة ينتصرون عليه. لقد عاينّا ذلك بأم أعيننا حين كان الطنطاش متردداً في استلال المسدس، فحينذاك كان «داعش» يُنازع الشاب، إلى أن طاف على وجهه وأرداه.
بهذا المعنى، فإن «داعش» انتصر في حلب في سياق هزيمتيه في الموصل وفي الباب، وهذا ليس تلميحاً إلى أن المنتصرين في حلب هم حلفاؤه، إنما توقع لنتائج سحق مدينة بأكملها على أيدي غزاة لم يردعهم العالم.
لنعد بالذاكرة قليلاً إلى الوراء، ولنستعد أسباب صعود التنظيم وتدفقه المدهش والسهل على إقليمنا ومدننا ووجدان الآلاف منا.
يحصل اليوم ذلك أيضاً، ولكن على نحوٍ أكثر عنفاً.