الصابرات على الأوجاع والآلام، المعجونات بتراب الأرض وتراويد الوطن، ورائحة زعتره البري، لسن أمهات عاديات. هن اللواتي شكّلن المجد في أحشائهن عن سابق تصميم، فقد أقسمن، منذ أن تنسمن هواء الوطن، ألا يلدن سوى الشهداء.
عرَفَنَ، ومنذ أن اشتهين الأمومة، أنهن لا يشبهن باقي النساء، فمن تضع روح ولدها على كفه فداء للأوطان ليست كباقي الأمهات.
هنا، في كل بقعة من وطني، كانت الأمهات يطرزن الأمومة بالعطاء، ويبعن المصاغ القليل الذي يذكرهُن بزفافهن، أو تلك الأسوارة اليتيمة، من أجل أن يتعلم الفتى. وثمة والد باع قطعة الأرض “حيلته الوحيدة”، لكي يربي الأمل، ويمنح ابنه ما لم يستطع هو أن يحققه. لكنه قانع بما تصنع يداه، ويؤكد أنه لا بأس في ذلك، فالقصة ليست مالاً ولا أملاكاً، بل هي صناعة رجال، واستثمار طويل الأجل فيهم، وتجهيزهم جيدا لمعنى التضحية لأجل الوطن، والحرص عليه كما لو كان أمهم.
كغيرهن، أرضعن وسهرن وتعبن، وحلمن بزفة العرسان، وخيل بيضاء وتراويد كثيرة، واستعددن جيدا لذلك اليوم، فتعلمن إتقان الزغاريد. لم يخطر في بالهن يوما أن تلك الزغاريد ستنطلق فخرا بالشهيد الذي غادر بشجاعة، قابضا على بندقيته لكي لا يضام الوطن، ليكتب اسمه على قائمة الشرف بشرف.
هنّ من ولدن الأمجاد لتعلو الأوطان، وتبقى شامخة تسر الصديق، وتغيظ العدو، ولكي تبقى الكرامة مصانة، والأمن مخيماً علينا.
لَكُنّ كل السلام والحب والصبر والسكينة. ولكُنّ، أنتن فقط، القصص التي ستروى عن أبطال رفعوا هاماتهم ضد الغربان، وأمهات أبطال علّمن أبناءهن أن الوطن أم وأب وعشيرة، وأن الدم حين يختلط بتراب الوطن، فإنه حياة لجميع من يبقون هنا متنسمين هواء البلاد، ومستذكرين تضحيات من مضوا باسمين باتجاه الجنة.
سلام على الأمهات والآباء، وخشوع.. خشوع طويل في حضرة الدم الطاهر الزكي.
أما الشهداء فنقول لهم، كلما صعدت روح من أرواحكم إلى السماء، صلينا لها وخشعنا هيبة واحتراماً لدم افتدانا. نقول لهم، إننا صمتنا حزنا وألما.. وكذلك إيمانا بأنكم ذهبتم هناك حتى نحيا بسلام، وضحيتم بأرواحكم لكي يخلد الأطفال إلى نومهم، ومن أجل أن يبقى الحلم متواصلا بعالم يعمه السلام والمحبة.
نعلم أن أرواحكم تحرسنا من هناك؛ تماما كما كنتم تفعلون هنا وأنتم على قيد النفس والحياة، وعيونكم تحرسنا في هذا الزمن الذي يسود فيه الظلام والقتل والظلم.
أنتم الأبطال ومعنى البطولة، وأنتم تعويذتنا الأبدية التي تمدنا بالقوة والصمود، فأنتم الفكرة النبيلة للتضحية الحقيقية لصون الأرض وناسها.
نقول لكم؛ سلمت النساء اللواتي سهرن وتعبن من أجل أن تكونوا مدماكا لتحصين الوطن وصون أمنه وناسه، من غير مقابل إلا حب الوطن.
ولأنكم تقدمون دمكم عربونا لليلنا الآمن، ولأنكم تودعون أمهاتكم وأبناءكم، وكلٌّ روحه على كفه، رفقا بنا؛ فنحن لا نستطيع أن نتوجع أكثر مما نختبر، فوجع الشهداء وحزن رحيلهم الذي يعتصر قلوب الأمهات يوجعنا نحن الآمنين الذين انتصرتم لنا في المعركة ضد الظلام. رفقا بنا، فوجع رحيلكم يدمي القلب.
إنها الحرب؛ نعلم ذلك، وقد فرضت علينا، وأنتم الذين تذودون عنا ضد عدو بلا أخلاق. نرجوكم؛ وأنتم تواجهون كائنات هجينة مشوهة، تقتل وتسفك الدم لتحظى بالحور العين، كاسرة كل الحرمات.. رفقا بنا وبقلوبنا التي تدعو لكم بالسلامة والعودة إلى أحضان أمهاتكم.