ماذا بعـــد حلب؟ ميدانــياً قد يتوجه النظام، أو بالأحـــرى حلفاؤه، إلى محيط دمشق. لم يبق سوى دومــا. ولن يجد هؤلاء مبـــرراً لبقائها بؤرة توتر. لن يكون مصيرها أفضل من مدن ريف العاصمة. ســـيأتيها الدور عاجلاً. وقد لا يجد المقاتلون فيها مفراً من اللحاق بتجمع «المــــادرين» إلى إدلــب وريفها. هذه المنطقة ستترك لمرحلة لاحقة، سواء كان ذلك في إطار تفــــاهم بين روسيا وتركيا، أو في إطار مخـــطط يكــــفل الزمن بموجبه تحويلها بــــؤرة من الصراعات والتطرف. عندها يكون حسابها مثيل حســـاب الرقة. فالعالم الذي تعامى عما حصل ويحصل في سورية ولم يرَ سوى الإرهاب و «داعش»، لن يقبل بأن يتحول الشمال الغربي للبلاد مقراً لجبهة «النصرة» ولفـــصائل أخرى وافدة سيدفعها اليأس إلى مزيد من التطرف… أللهم إلا إذا استطاعت تركيا تطــويع هذه المنطقة وإلحاق مجموعاتـها بتلك التي تقاتل تحت قيادتها، وفي إطار استراتيجيتها الجديدة.
كان هم تركيا ولا يزال ألا يعبر مقاتلو «الاتحاد الديموقراطي الكردي» إلى غرب الفرات. تخشى الربط بين إقليمي الجزيرة وعين العرب (كوباني) شرق النهر بعفرين غربه. لذلك، طوعت فصائل «الجيش الحر» وفصائل إسلامية أخرى في «درع الفرات». نحو خمسة آلاف انخرطوا في معركة تركية بحتة من أجل تحرير مدينة الباب، أحد معاقل «داعش». لم يكن الهدف طرد التنظيم أولاً، بمقدار ما كان أساساً الحؤول دون وصول «قوات سورية الديموقراطية» إلى هذه المدينة، وجلها من المقاتلين الكرد. كأن الفصائل المرابطة على الحدود الشمالية، والتي تحظى بدعم من أنقرة ملزمة اتباع مشروع الرئيس رجب طيب أردوغان أولاً. لذا، تعامت عن حصار حلب والحرب عليها. لم ترَ لزاماً عليها أن تفتح جبهة بمواجهة النظام لتخفيف الضغط عن شركائها في المواجهة. تبدل دورها مع تبدل دور أنقرة. كانت هذه شريكاً للمعارضة السياسية والعسكرية وأكثر المتشددين حيال النظام. لكن الأمر تبدل مع التحول الجذري الذي قاده أردوغان إثر المحاولة الانقلابية الفاشلة. باتت الآن وسيطاً. وهي تسعى مع موسكو إلى ترتيب محادثات سورية – سورية في آستانة! لم تعد معنية ببيانات جنيف وفيينا ولقاءات «أصدقاء سورية» والقرارات الدولية. باتت جزءاً من رؤية الكرملين للتسوية!
تتحمل تركيا وهذه الفصائل أيضاً جزءاً من المسؤولية عما حل بحلب. ومثلها تلك التي تنتشر في إدلب ويربو عديدها على 15 ألف مقاتل لم يجدوا لهم دوراً سوى استقبال مزيد من الوافدين ضحايا التفاهمات مع القوات الروسية أو الإيرانية في مناطق غرب العاصمة وجنوبها وشرقها. مثلما يتحمل جزءاً من المسؤولية مسلحو الفصائل في الجبهة الجنوبية. نحو 35 ألفاً منضوون برواتب منتظمة في «غرفة العمليات العسكرية» بإشراف الاستخبارات الأميركية ورعاية عدد من الدول المحاذية للحدود الجنوبية. هؤلاء كانت آخر مشاركتهم في الحرب الدائرة ربيع عام 2015، يوم أمسكوا بالمعابر الحدودية مع الأردن والمناطق المحاذية لإسرائيل. وكانت المعارضة السياسية تعول كثيراً على هذه الجبهة. كانت تأمل، بموجب تاريخ معروف، أن يأتي التغيير في دمشق من الجنوب. لكن التغيير طال انتظاره. والأسباب معروفة. تماماً كما هي الحال في الشمال. التزم الأردن منذ البداية سياسة النأي بالنفس على نحو مختلف تماماً عما نهجه لبنان أو بعض قواه السياسية. وحتى عندما تفرغت دول عربية عدة لدعم فصائل انتشرت جنوب سورية ظلت الإمرة لعمّان التي تفادت الانخراط المباشر في الأزمة. لم تطلق العنان لفصائل قد تعزز تطلعات قوى إسلامية في الداخل. خلاصة القول أن الفصائل العسكرية «المعتدلة» التي اعتمد عليها «الائتلاف الوطني» و «الهيئة العليا للمفاوضات» كانت قيادتها بيد أطراف خارجية، وستظل كذلك.
لا جدال في أن الرئيس فلاديمير بوتين هو المنتصر الأول. قطف ثمار سياسة دؤوب. أبرم جملة من التـــفاهمات. التقى الملك عبدالله الثاني في أكثر من قمة. مثلما التقى رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتانياهو وفتحا خطوطاً عسكرية بين قواتهما أتاحت للجيش الإسرائيلي ضرب أهداف عدة في سورية من دون أي اعتراض. حتى أنه شارك أخيراً في ضـــرب مواقع لتنظيم «داعش». ولم يغفل الكرملين أهمـــية كسب القاهرة واستمالتها إلى جانبه أقله في المواجهة السياسية مع مجموعة «أصدقاء سورية» وخصوم النظام في دمشق. وكان آخر إنجازات موسكو استثمار الأزمة التي واجهتها أنقرة بعد المحاولة الانقلابية الفاشلة، وانسداد الأفق في وجه استراتيجيتها الخاصة بالعراق وسورية، وانتـــقال العنف والإرهاب إلى مدنها وساحاتها بعدما كانـــت شرعت أبوابها لشتى أنواع المقاتلين من كل حــدب وصوب. بالطبع، سهلت «مناوشات» تركيا مع أوروبا والولايات المتحدة مهمة التقارب بين بوتين وأردوغان. حتى أن الأخير لم يتورع عن التلويح بالانضمام إلى «منظمة شنغهاي للتعاون»، والتهديد بفـــتح الحدود أمام اللاجئين إلى أوروبا! ويبدو أنه تناسى مبادرات التقارب التي أبدتها موسكو حيال الكرد الذين يقارعهم شرق الفرات والشمال السوري.
وبالطبع، كان للانكفاء الأميركي عن التدخل في سورية أكبر الأثر في تحول بلاد الشام قاعدة رئيسية لروسيا سيسعى الرئيس بوتين إلى تحويلها منطلقاً لمواصلة سياسته الطموح في مقارعة واشنطن واستعادة دور إمبراطوري لبلاده. والسؤال اليوم كيف سيستثمر سيد الكرملين «نصره المؤزر» على حلب؟ فما بعدها يختلف تماماً عما قبلها. كيف سيترجم بالسياسة ما كسب بالحرب؟ عناصر التسوية السياسية لأزمة سورية ستواجه متاعب أين منها مشقات الحرب. ليس كافياً أن يتفاهم بوتين مع الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترامب. ثمة قوى إقليمية تريد حصتها الآن. لقد استنفدت الحرب الكثير من رصيد التفاهمات. هناك ثمن لسكوت الجميع تقريباً عن مذبحة حلب. ولن يكون سهلاً عليه التوفيق بين حسابات إيران وحسابات القوى الإقليمية التي تغاضت أو انتظرت هذه النهاية للمعارضة السورية. علماً أن حساباته هو اختلفت عن حسابات طهران في منعطفات رئيسية وليس آخرها ما حصل في حلب ويحصل. ولا شك في أن المواجهة التي تلوح في الأفق بين الإدارة الأميركية المقبلة والقيادة الإيرانية ستلقي بثقلها على أي تفاهم بين موسكو وواشنطن.
ليست هذه المعضلة الوحيدة. فالرئيس بوتين يدرك أن إسرائيل لا يمكن أن ترضى بتحول سورية قاعدة متقدمة لإيران وميليشياتها على حدودها كما هي الحال في لبنان. والتصريح الأخير لوزير دفاعها أفيغدور ليبرمان خير مؤشر إلى الموقف الجديد للدولة العبرية للمرحلة المقبلة. وحتى تركيا التي بدلت ثوبها ودورها واستراتيجيتها لن تقبل بحصة أقل من حصة الجمهورية الإسلامية. فهي رأت وترى إلى بلاد الشام بوابتها إلى المنطقة العربية برمتها. ومثلها الدول العربية التي يعول عليها العالم في مشاريع إعادة إعمار سورية، والتي لن تقدم مساهماتها هدية مجانية، لا إلى نظام الرئيس بشار الأسد ولا إلى طهران. هذا من دون الحديث عن المؤسسة العسكرية السورية التي لن ترضى بتقاسم السلطة مع الميليشيات «الإيرانية». لذا، إن المشهد الجديد بعد انتهاء معركة حلب سيطرح مجدداً مصير صيغة الشراكة أو بالأحرى التقاسم الروسي – الإيراني لبلاد الشام.
إلى كل هذه المعطيات التي ستثقل عناصـــر أي تسوية روسية لأزمة سورية، يبقـــى ملحـــاً أيــضاً بَتّ مستقبل الفصائل المعتدلة، خــصوصاً المنضـــوية في «الجيش الحر» في جبهتي الشمال والجنوب. لا يمكن تجـــاهل جيش بعشرات الآلاف خرج على المـــؤسسة العسكرية الرسمية ولــزم نوعاً من «الحياد» في معركة حلب. فهل يعود إلى حضن المؤسسة من دون أي تغييــــرات سيـــاسية وأمنية وهيكلية؟ أو هل يـــرضى رعاته الإقليميون، من تركيا إلى الأردن وغيـــرهما من قوى عربية وأجنبية، بالتخلي عنه من دون أي مقابل؟ كل هذه التحديات أمام موسكو في كفـــة، والتفاهم بينها وبين واشنطن الحاضرة في الشمال الشرقي لسورية، على الحرب لتحـــرير الرقة وغــيـــرها من «داعش» و «النصرة» في كفة أخرى… كســـب الرئيس بوتين الحرب على حلب، وخسرت المــــعارضة. وسيكون عليه أن يدفع الكثير من رصيد شركـــائه وحلفائه وفي مقدمهم رأس النظام قبل أن يكسب المعركة السياسية… والشعب السوري.