ليس هناك أكثر تعبيراً عن عمق المأزق العربي من المشهد في المنطقة. انهيارات تتوالى في العراق وسورية. حرب أهلية في ليبيا واليمن. الموصل تتعرض للتدمير، وحلب دمرت، والرئيس بشار الأسد يهنئ السوريين بتدمير هذه المدينة العريقة على يد الروس والإيرانيين وميليشيات أجنبية. فعل الأسد ذلك مع معرفته بأن سقوط حلب كان ثمرة لتفاهم تركي – روسي بدأ العام الماضي، يؤسس لحل سياسي في سورية من خلال مفاوضات بين أطراف الأزمة ينتظر لها أن تُعقد في الأستانة عاصمة كازاخستان برعاية روسية – تركية. هذا ما أشار إليه الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أثناء زيارته اليابان الأسبوع الماضي، وتناولته مصادر إخبارية متعددة بينها صحيفة «حريت» التركية أمس. ولا يكتمل نكد المشهد إلا بدول عربية لا تزال على رغم كل هذه المآسي في حاجة إلى وساطات لحل الخلافات في ما بينها.
والمحزن في هذا المشهد العربي ليس أن مسلسل الانتكاسات لا جديد فيه وحسب، بل إن بعض الخلافات التي تساهم في هذه الانتكاسات تستند إلى أوهام وليس إلى حقائق ومصالح معتبرة. أحد هذه الأوهام يختزل في سؤال: مَن مِن الدول العربية لها حق قيادة العالم العربي؟ وهو سؤال تنشغل به النخبة الثقافية والسياسية في مصر أكثر من غيرها. يرى هؤلاء أنه لا مخرج للعالم العربي إلا بعد أن تستعيد القاهرة دورها في قيادة المنطقة كما كان عليه الأمر أيام الرئيس جمال عبدالناصر. أمنية كل عربي في هذه اللحظات الحرجة أن تتقدم مصر، أو أي دولة عربية أخرى، لتولي زمام القيادة. لكن هل هذا ممكن عملياً؟
وهل كانت مصر تقود العالم العربي أيام عبدالناصر؟ إن مصر لها تاريخ عريق، وإنها الأكبر ديموغرافياً والأقوى عسكرياً، وكانت لها سابقة الاتصال المباشر بالثقافة الأوروبية الحديثة في نهايات القرن الـ 18، كل ذلك ليس مجالاً للجدل والاختلاف. وإن جمال عبدالناصر كان يتمتع بشعبية كبيرة داخل مصر وفي أنحاء العالم العربي، أيضاً كان حقيقة ماثلة. لكن كل ذلك شيء وقيادة منطقة بحجم العالم العربي شيء آخر. يغيب عمن يقول بعكس ذلك أن عبدالناصر ونظامه، كان دائماً في حال اختلاف وصراعات حادة أحياناً لا تنتهي مع البعث في العراق وسورية، ومع الأردن والسعودية والمغرب. حتى مع الجزائر لم يكن على وفاق دائم ومستقر معها. كان العالم العربي يمر حينها بما بات يعرف بـ «الحرب العربية الباردة». وهذا دليل على تمكن الاختلاف وتصادم المصالح، وبالتالي غياب رؤية سياسية مشتركة للدول العربية تؤسس لانتظامها في تحالف تقوده دولة بعينها. بل تبين أن النظام المصري في عهد عبدالناصر كان منقسماً إلى كتل ومراكز قوى بينها صراعات خفية يغطيها وجود الزعيم الشعبي. وقد انكشف كل ذلك بعد هزيمة حزيران(يونيو) مباشرة، ثم انفجر بعد وفاة عبدالناصر وتولي أنور السادات للحكم في خريف 1970.
هناك شروط أخرى لا بد من توافرها في أي دولة تطمح لقيادة إقليمية، مثل القدرات السياسية والاقتصادية والعسكرية لتحمل آليات وتكاليف مثل هذه القيادة. وليست هناك دولة عربية، بما في ذلك مصر، تملك من الموارد والمؤسسات، والإمكانات التي يتطلبها هذا الدور. دونك الدور الأميركي في قيادة العالم الغربي وما ينخرط فيه من موارد بشرية وطبيعية ومؤسسات، ونشاطات سياسية وقانونية، وتحالفات، ومصالح ورؤى مشتركة، ومراكز أبحاث، وجامعات، ومصانع، واستثمارات عابرة للحدود، وموازنات فلكية، وقواعد عسكرية في مختلف القارات، وأساطيل تمخر البحار والمحيطات. هذا لا يعني أنه لا يمكن لمصر أو أي دولة عربية أن تمتلك ذلك مستقبلاً، لكن لهذا متطلبات ليست متوافرة حتى الآن.
منذ عبدالناصر وحتى الآن عايش العالم العربي خطابات مصرية أقل ما يقال فيها إنها تفتقد الاستمرارية والانسجام. خطاب ناصري قومي، وخطاب مصري نشط في عهد السادات، وخطاب مصري منكفئ في عهد حسني مبارك. والآن نحن أمام خطاب مصري مضطرب لم يستقر على حال، وليست له ملامح واضحة داخلياً وخارجياً. يقول بالديموقراطية والانتماء لثورة 25 يناير، لكنه يتصرف بما يتناقض مع ذلك في سياساته الداخلية. في الخارج يقول إنه مع «الجيش الوطني في سورية والعراق وليبيا»، وليس مع الشعب في هذه الدول. وهو ما يتناقض قبل أي شيء آخر مع دعوى أنه ينتمي الى ثورة 25 يناير. وإلا كيف يحاكم هذا النظام حسني مبارك الذي ثار عليه الشعب في مصر، ثم ينحاز إلى بشار الأسد ضد الشعب في سورية؟ وكيف يمكن لهذا النظام أن يقود العالم العربي وهو يرفض الاعتراف بالواقع السياسي للدول التي يدعم الجيوش فيها، ومشغول بموضوع «الإخوان» أكثر من انشغاله بالتحديات التي تواجهها مصر والعالم العربي؟
كان العالم العربي يمر في بداية النصف الثاني من القرن الماضي بحال شعبوية طاغية انطلقت مع حركات التحرر الوطني. وهي حال اتضح لاحقاً أن النخب الحاكمة حاولت استثمارها لمصالحها قبل أي شيء آخر. كانت حالاً أميل الى العشوائية منها للانسجام. وهذا يعود للهوة التي كانت تفصل بين الدول، وبين الجماهير ونخبها السياسية، بمن فيها عبدالناصر. إذ كان قرب الأخير من الجماهير قرباً عاطفياً. أما سياسياً فكان الرجل في مكان آخر. لذلك انفجرت الفقاعة في شكل سريع ومدو في أعقاب الهزيمة التي كانت موجعة مصرياً وعربياً. ولا ينتبه القائلون بقيادة مصر للعالم العربي في عهد عبدالناصر بأن قولهم هذا ينطوي على أن هذه القيادة انتهت إلى الهزيمة والفشل، وتلاشي الفكرة الناصرية داخل مصر قبل غيرها. ولا أظنهم يريدون ذلك.
الشاهد في كل ذلك أن الواقع السياسي العربي كما يتفسخ أمامنا الآن لم يكن يسمح من قبل بدور قيادي لهذه الدولة العربية أو تلك، ولا يتسع له الآن. يطول الحديث عن أسباب ذلك. لكن يمكن الإشارة إلى ثلاث خصائص لهذا الواقع تمنع مجتمعة تبلور دور قيادي لدولة عربية بعينها. أولاً أنه رهينة لأزمة حكم بين الدولة ومجتمعها لم يتم تجاوزها منذ قرون. ونتيجة لهذه الأزمة صارت المؤسسات العسكرية والأمنية هي أقوى مؤسسات الدولة، بل تكاد تختزل الدولة في ذاتها ودورها. تمثل هذه الأزمة مصدر اختلاف وصراعات في الرؤى والمصالح داخل الدول، وفي ما بينها. وليس مفاجئاً والحال كذلك أن انفجرت الأزمة أخيراً على شكل حروب طائفية متوحشة في العراق وسورية واليمن وليبيا. ووصل الأمر أن أفرزت هذه الأزمة ميليشيات أصبحت تنافس الدول. آخر مظاهر ذلك شرعنة ميليشيا «الحشد الشعبي» بقرار من «البرلمان» العراقي لتنافس الجيش والدولة معاً. ثانياً، من الطبيعي في مثل هذه الحال أنه لا توجد رؤية عربية مشتركة، سياسية واقتصادية على رغم وجود الجامعة العربية لأكثر من 60 سنة.
وعلى خلفية ذلك، وهذا ثالثاً، تكاد تنعدم الثقة بين الدول العربية. ووصل انعدام الثقة إلى أن القيادتين العراقية والسورية حالياً لا تثقان إلا بإيران من منطلقات مذهبية وليس لأي شيء له علاقة بالشعب الذي تحكمه أو بالدولة التي تمثلها. بعبارة أخرى، تلتقي هاتان القيادتان مع القيادة الإيرانية أكثر مما تلتقيان مع شعوبهما، دع عنك الدول العربية الأخرى. أمام مثل هذا الواقع يصبح الحديث عن قيادة عربية بخطاب تتم استعادته من الماضي نوعاً من الهروب إلى الوهم وليس حديثاً عن رؤية متماسكة. المطلوب في مثل هذه الظروف واضح، وهو أن تلتقي الدول العربية التي لم تتأثر بعاصفة الربيع العربي على تفاهمات الحد الأدنى، والتأسيس لقيادة مشتركة لإنقاذ ما يمكن إنقاذه، وملء الفراغ الذي تتسلل منه الأزمات وتستفيد منها الميليشيات، والتدخلات الأجنبية، وأولها التدخل الإيراني. لكن حتى هذا يبدو صعب المنال الآن. يبدو التمسك، في هذه الحال، بشرط قيادة مصر نوعاً من الهروب من المسؤولية والواقع معاً، نحو وهم حماية النخبة السياسية لذاتها وليس لمصر، أو استعادة دور قيادي لها لم يكن موجود أصلاً.