ثمة هزيمة ألحقت بقوى ودول وأحلاف وقيم في حلب، وهذه من السهل تحديدها وتوقع تبعات الهزيمة عليها. أما المنتصر في عاصمة الشمال السوري، فليس من البديهي تحديده، ذاك أن ما يجري من تهليل للنصر يبدو أقرب إلى ثقافة جماهير «الفوتبول»، على رغم البعد المأسوي الرهيب لهذا الانتصار.
نعم، قبل مأساة حلب ليس كما بعدها. ويبدو أن العالم المتخاذل حيال المدينة وأهلها، بدأ يُقر بهذه الحقيقة. ذاك أن بوتين وخامنئي وبشار الأسد انتصروا هناك على العالم وليس على أهل حلب فحسب. وصحيح أن تبعات الانتصار الأولى كانت آلاف القتلى من المدنيين ودمار مدينة بأكملها، لكن تبعات أخرى سريعاً ما بدأت تظهر، وهي لن توفر باباً تطرقه.
الهزيمة الجوهرية لحقت بقيم راح العالم يُراكمها منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، وهو تولى تكثيفها عقب انهيار الاتحاد السوفياتي. ليست القوة العارية هي ما يحكم العلاقات بين الجماعات والدول والأحلاف، هذا في الحد الأدنى ما سعت الحداثة إلى دفعه إلى السياسة، أما الشرعية فصار يعوزها جهد أكبر حتى تستقيم، ومن مظاهرها الانتخابات والشروط المفروضة على الدول لكي تنضم إلى ائتلافات وتكتلات وأسواق (إلغاء عقوبة الإعدام كشرط لقبول تركيا في الاتحاد الأوروبي، أو فرض شروط على الصين لها علاقة بالحقوق السياسية ومعتقلي الرأي لتكون جزءاً من السوق العالمي، وأخيراً ما وُوجهت به مصر لجهة ترحيلها المؤسسات الإنسانية والمدنية الدولية)، هذه كلها شكلت مساراً من المفترض أن مأساة حلب ستقطعه. فالنقاشات التي شهدها مجلس الأمن في جلسته عن المدينة السورية كاشفة لجهة حجم الانتكاسة التي أصابت كل شيء. فقد رد المندوب الروسي فيتالي تشوركين، والذي تقود بلاده التحالف الذي أسقط حلب، عن سؤال المندوبة الأميركية سامنتا باور عما إذا كانت بلاده تضمن خروجاً آمناً للمدنيين، فأجاب: «لا، لأننا غير مسيطرين على الوضع برياً»!
العالم الذي استقبل إجابة تشوركين هذه بصفتها واقعاً يجب التعامل معه، لن يتمكن من الآن وصاعداً أن يملي شروطاً على القاهرة لكي تقبل بعودة مؤسسات الإعانة والرقابة الدولية إليها. ودول البلقان التي تتعثر بمحاولاتها الاستجابة لشروط الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي عبر مكافحة الجريمة المنظمة والفساد، وإفساح المجال لمزيد من الحريات العامة والخاصة، ستكتشف أن الاتحاد لم يكن نفسه في حلب، فلماذا يكون في بلغراد أو في ساراييفو أو في مقدونيا. الاتحاد قَبِل ألاّ تلتزم موسكو حماية المدنيين، فكيف يفرض شروطاً لها علاقة بالحريات؟
لا شيء سيبقى كما كان عليه قبل سقوط حلب. جدار الفصل العنصري الذي تبنيه إسرائيل سيصبح برداً وسلاماً، ونتانياهو سيشهر صورة حلب في وجه كل من يعترض طريق الجدار، فالعالم الذي تعامل مع إفناء مدينة أكبر من القدس بأضعاف سيُشكل اعتراضه على الجدار ترفاً لا مكان له وسط انهيار كل شيء.
بعد هزيمة العالم في حلب ثمة عودة إلى الزمن السوفياتي وإلى القيم السوفياتية عندما كانت جزءاً من منظومة العلاقات التي تشطر العالم. حينها لم يكن في أوروبا اتحاد، ولم تكن واشنطن وحدها من يتولى دفة النزاع. وإذا كانت مؤشرات تصدع الاتحاد الأوروبي سابقة على الهزيمة في حلب، فإن الأخيرة حولت المؤشرات إلى وقائع صلبة، وإذا كان تراجع اليورو ونجاح البريكزيت صورتين عن تقهقر اقتصادات دول الاتحاد، فإن المجزرة في حلب صورة عن هزيمة قيم الاتحاد.
وهنا يكمن السؤال، أي هل كانت أميركا، ومن خلفها أوروبا، تعلم أن سقوط حلب يعني هذا الانقلاب الكبير؟ هل كان الانكفاء جزءاً من خطة انسحاب إلى الموقع الذي كان فيه الغرب خلال الحرب الباردة؟ الأرجح أن أحداً لم يُقدّر التبعات، وأن المسؤولية عن قيادة العالم كانت بيد من لم يُقدّر هذه المسؤولية، وها هو اليوم يتخبط في هزيمته.
لكن ليس الغرب، وأهل حلب طبعاً، من أصابهم الزلزال، فالإقليم بدوره لم يُدرك دلالات هزيمة المدينة على يد الإيرانيين. وما قاله يحيى صفوي، المستشار السياسي لخامنئي، بعد انتصاره في حلب، مؤشر آخر على ما جرى يجب أن يؤخذ على محمل الجد هذه المرة. فهو اعتبر أن «إيران هي القوة الأولى في المنطقة، وعلى واشنطن التعامل مع هذه الحقيقة». ولا تقتصر دلالات هذا القول على عنجهية منتصر، بل أيضاً تشير إلى نوع الطموح، وإلى طبيعة النزاع في الوعي الإيراني، وهذا يُرتب واقعاً مختلفاً في ضوء «الانتصار في حلب». هذا الواقع سيشمل الإقليم بأكمله، فالطموحات الإيرانية صارت جزءاً من الواقع، وهي تحثّ مزيداً من الخطى لتكريس وفرض جغرافيا وديموغرافيا كانتا حتى سقوط المدينة، أضغاث أحلام امبراطورية مستحيلة، وصارتا بعد السقوط ممكنتين.
ودرس حلب ليس من النوع الذي يُستفاد منه في الجولة المقبلة، ذاك أن ما بُني عليه لا يمكن العودة عنه.
لكن ثمة شيئاً ما زال غير متبلور في هذا الانتصار، وهو هوية المنتصر، ذاك أن الأطراف الثلاثة التي تُهلل له تتنازعه إلى حلبات شديدة التفاوت. فروسيا تريده علامة عودتها القطب الثاني للعالم، وإيران تريده جزءاً من هلالها، والنظام السوري يطمح عبره إلى استعادة شرعية واعتراف فقدهما منذ سنوات.
وهنا لا بد من العودة إلى التساؤل عن هوية المنتصر. ذاك أن الهويات الثلاث لا تشكل مجتمعة هوية مشتركة. نعم، خسر العالم في حلب حرباً تكاد تكون عالمية، وخسر معها قيم ما بعد الحرب العالمية الثانية، لكن المنتصر الذي أعلن عن نفسه لا يبدو أنه في حجم الانتصار. روسيا أعجز من أن تكون قطباً بحجم الاتحاد السوفياتي، وإيران امبراطورية مذهبية هذه المرة، وهو ما سيجعل طموحاتها مخضبة بالكثير من الدماء، أما نظام الأسد فكيف له أن يعود سلطة في دولة أجهز على كل شيء فيها؟
ثمة هزيمة وثمة انتصار في حلب. وعلينا أن ننتظر تبلور هوية كل منهما، لكن هناك شيئاً أكيداً هو أن مدينة أُبيدت، وهذا ما لم يجر مثله منذ نهاية الحرب الكونية الثانية.