ثمة محطات أردنية ذات دلالة في سيرة المفكر السوري الراحل صادق جلال العظم، على الصعيدين الاجتماعي والأكاديمي.
اجتماعيا، كان العظم متزوجا من السيدة فوز طوقان؛ ابنة رئيس الوزراء الأردني الأسبق أحمد طوقان، شقيق شاعر فلسطين إبراهيم طوقان، والشاعرة الكبيرة فدوى طوقان. وتفيد روايات لمطلعين على تاريخ عائلة طوقان أن المرحوم أحمد طوقان انتقل مع عائلته من نابلس إلى بيروت حين التحق بالعمل في منظمة “اليونسكو”، وهناك تعرف العظم على الراحلة فوز ابنة طوقان، وتزوجا.
لكن المهم في سيرة المفكر العظم أنه، وعندما تعرض للاضطهاد والطرد من الجامعة الأميركية في بيروت وجامعة نيويورك، نهاية الستينيات، عين أستاذا للفلسفة بالجامعة الأردنية، بقرار من رئيسها الأستاذ الدكتور ناصر الدين الأسد؛ صاحب الفضل الكبير في مسيرة الأردن التعليمية والأكاديمية.
كان العظم قد أصدر حينها كتابا أثار ضجة كبيرة حمل عنوان “نقد الفكر الديني”، فتخلت عنه الجامعة الأميركية في بيروت تحت ضغوط المعارضين لفكره، مستغلة هي وجامعة نيويورك توقيع العظم على عريضة عالمية تطالب الجيش الأميركي بالانسحاب من فيتنام.
لم يكن قد مضى على تأسيس الجامعة الأردنية في ذلك الوقت سوى سنوات قليلة. لكنها، رغم ذلك، كانت منارة للمعرفة والتنوير، يلتقي في رحابها الأساتذة العرب من مختلف الجنسيات والمدارس الفكرية والفلسفية. وكان الدكتور الأسد من أشد المعجبين بفكر العظم، كما يفيد تقرير توثيقي في صحيفة “الغد” عن حياة المفكر السوري، فقام بتعيينه أستاذا في الجامعة الأردنية. لكن بعد فترة ليست طويلة، جاء رئيس جديد للجامعة الأردنية هو الدكتور عبدالكريم خليفة، وأنهى خدمات العظم. ولم تتوفر لنا معلومات كثيرة عن دوافع قرار الدكتور خليفة، سوى جملة عابرة تفيد بأن رئيس الجامعة لم يكن يتفق مع العظم في آرائه.
ربما يكون لقرار إنهاء خدمات المفكر العظم دوافع أخرى، يستطيع أن يجليها من عايشوا تلك المرحلة من أساتذة “الأردنية” أو طلبتها.
المفارقة تظل حاضرة في قرار تعيينه بالجامعة الأردنية لا فصله. أستاذ جامعي غير أردني يؤلف كتابا يعرض رؤية مخالفة للسائد من فكر، ومعارض للتدخل الأميركي في فيتنام، لا تحتمل جامعة أميركية مواقفه، فلايجد غير جامعة أردنية وليدة ليواصل عمله الأكاديمي فيها.
ترى لو أن أستاذا أردنيا في إحدى جامعاتنا، وليس سوريا، اجتهد في زمننا الحالي مثلما فعل العظم، وأصدر كتابا أو دراسة تخالف السائد من الأفكار والمفاهيم في حقول الدين والفلسفة وعلم الاجتماع، ماذا سيكون مصيره؟
المؤكد أنه لن يبقى يوما واحدا في الجامعة، وسيكون محظوظا لو أن العقوبة توقفت عند هذا المستوى، ولم تبلغ حد تكفيره من طلبته قبل غيرهم، ورجمه إذا كان ذلك متاحا، وشن حملة تشهير بحقه على مواقع التواصل الاجتماعي، وعلى منابر الخطابة.
المؤكد أيضا أن هذا الأستاذ الجامعي ما كان ليبقى يوما واحدا في الأردن. سيضطر لهجرة وطنه خوفا على حياته وحياة عائلته، ولن يلقى جامعة عربية واحدة تحتضنه. لن يكون أمامه سوى البحث عن وظيفة في جامعة أميركية، وربما الجامعة الأميركية في بيروت.
الزمن تغير حقا، لكن للأسوأ؛ فجامعاتنا لم تعد منارة للمعرفة والعلم، بل ساحات للعنف والتكفير.