لا جدوى من المكابرة، فالوضع بعد حلب لن يكون كالوضع قبلها. ولا مفرّ من الاعتراف بأن عودة النظام إلى المدينة المفتاحية تطورٌ مفصلي، يمكن أن يأخذنا إلى ما لا تحمد عقباه، بما قد ينتجه من تبدل شامل لصالح التحالف الأسدي/ الروسي/الإيراني. لم يعد ممكناً، بعد حلب، السكوت على الأسباب التي أدت إلى ضمور حاضنة الثورة الشعبية، وقبولها هدناً محلية، رفعت حتى الغطاء السياسي عن التنظيمات التي كانت تدافع عن قراها وبلداتها ومدنها، وأظهرت عيوب فصائليتها وعجزها عن مواجهة آلة الحرب المعادية، بعد نكساتها وهزائمها التي إن استمرّت في التراكم، تحولت إلى هزيمةٍ مفصلية. من غير الجائز بعد حلب تجاهل احتمالات وقوعها، أو مواجهتها بأقلّ مما تتطلبه من اهتمام صادق، بالنظر إلى ما سيترتب عليها من أبعاد داخلية وعربية ودولية على الصعيد السياسي، وخصوصاً في ما يتصل بفرص الحل السياسي، والصعيد العسكري الذي تكثف الصراع السوري فيه، مذ غزا الروس والإيرانيون بلادنا، وطردوا بالقوة معظم شعبنا من وطنه، وتوقفت مظاهراته السلمية المطالبة بالحرية.
ثمّة أسئلة تطرح نفسها علينا، تتوقف مرحلة ما بعد حلب على طريقة ردنا عليها، أهمها:
1- هل ستتم المبادرة فوراً إلى العمل لبناء قيادة تستطيع اتخاذ قرارات وطنية، تقبل أطراف العمل السياسي والعسكري خياراتها؟ من دون هذه القيادة التي سيكون هدفها تحقيق مشروع “الحرية للشعب السوري الواحد”، ستستمر الفوضى والعشوائية المدمرة التي قادت واحدة من أعظم ثورات التاريخ إلى مشارف الهزيمة.
2- هل سيقبل المقاتلون عموماً، والمتأسلمون منهم خصوصاً، التخلي عن مشروعهم السياسي المجافي لمشروع الثورة، والمغلف بأدلجةٍ مذهبيةٍ لا علاقة لها بالإسلام أو الحرية ووحدة الشعب، عبّر عنها نمط التنظيم العسكري الفصائلي الذي تبنته، ويُمنى، منذ أكثر من عام، بهزائم تتلاحق في كل مكان؟ وهل سيوافق هؤلاء على اعتماد أنماطٍ من التنظيم تستطيع امتصاص ضربات الأعداء واحتواء تفوقهم، والأخذ باستراتيجيةٍ دفاعيةٍ، تحمي ما بقي من مناطق خارج أيدي النظام: من أرياف حلب إلى ريف حمص الشمالي، وصولاً إلى حوران ومناطق الساحل، على أن تترجم إلى هجمات تكتيكية تغطي مساحة سورية وتستنزف الأعداء، تنفذها، إلى جانب قوى المقاومة المتوفرة اليوم، قوى جديدة يتم تجنيدها في مخيمات ومهاجر السوريين التي تضم أربعين بالمائة من الشعب، ويتوقف مصير الثورة على انخراطهم السياسي والعسكري في العمل الوطني، وإخراجهم من العطالة الراهنة وبؤسها؟
3- هل سيتحول “الائتلاف” إلى القيادة الثورية المطلوبة، بما يتطلبه تحوله من بنى وعلاقات مغايرة لبنيته وعلاقاته الحالية التي جعلت منه جسماً بارداً ومعطلا، يفتقر إلى مستلزمات القيادة الثورية، وإلى البرامج الضرورية لقيادة ثورة شعبٍ ممزقٍ ومشتت، يواجه مهمةً معقدةً هي إنجاز ثورة مركّبة، يتداخل فيها بلوغ الحرية والتخلص من النظام الأسدي مع تحرير الوطن من الاحتلالين الروسي والإيراني، وهذه مهمةٌ يستحيل بلوغها من دون سياسات استباقية مترابطة برنامجيا، تحل محل السياسات الراهنة التي يمارسها “الائتلاف”، اللحاقية والمتقطعة، والضعيفة التأثير؟
4- هل ستبنى القيادة المطلوبة، بالتعاون مع بقية أطراف العمل الوطني، بالتلازم مع إنجاز مراجعة شجاعة وواقعية لمسار السنوات الماضية، تحدّد الأخطاء وأسبابها، وتصلحها من دون مراعاةٍ لأي طرف، لتعيد إلى الثورة سلميتها وهويتها فعل حرية للشعب السوري الواحد، وتحرّرها من الإرهاب والمذهبية؟ أخيراً، هل ستنجح القيادة الجديدة في وضع استراتيجية لثورة طويلة الأمد، وإيجاد التوسطات والعلاقات التي تترجمها إلى واقعٍ يصعب على أحد تخطيه، أو مواجهته.
5- هل ستغدو الوطنية السورية بأسسها الجامعة رافعة الأنشطة المتنوعة والنضالات السلمية، وهل ستنجح القيادة الجديدة في تجديد الحراك المجتمعي، الذي كان جوهر الثورة، وعطله الترحيل والتهجير والتجويع والقصف الإجرامي من جانب، والنهج المذهبي من جانب آخر، ويرتبط مصير الثورة من الآن فصاعدا باستعادته؟.
لا يجوز أن يكون ما بعد حلب مماثلاً لما كان قبلها. إذا فهمنا درسها وواجهناه، من دون حساباتٍ جانبية، خرجنا من الفوضى واستعدنا ثورتنا الأصلية. أما إذا “طنّشنا”، فإننا نسهم في قتل ثورةٍ ضحّى ملايين البشر بحياتهم، من أجل انتصارها، ونحقّق ما يريده الأسد وروسيا وإيران من جهة، والمذهبيون وحماتهم من جهة أخرى، وخرجنا من التاريخ، وزال وطننا من الوجود.