عروبة الإخباري – د. إبراهيم خليل *
ما من شكّ في أن قصص عدي مدانات قصصٌ تعود بنا لزمن عُرفت فيه القصة المتأنية، التي ينسج الكاتب فيها متخيَّله الحكائي على مَهَلٍ، وفي تأنٍّ كبيرين، ومن يقرأ المجموعة القصصية صباح الخير أيتها الجارة (وزارة الثقافة، 1991) يلاحظ هذا. فبعيدا عن التصنيفات التقليدية بين قصة واقعية، وأخرى غير واقعية، يجد القارئ نفسه مشدودا إليها وهو يتابع عالم الشخوص، وتنقُّلهُم المتكرر في متواليات الحكاية، واحدة تلو الأخرى، فبوقفة مطولة إزاء حكاية «المستأجر» وهي القصة الأولى في الكتاب، يستخلص القارئ، أو الدارس، جملة من الحقائق عن نهج الكاتب عديّ مدانات في كتابة القصة القصيرة.
ترتكز القصة المذكورة على عدد من العوامل الفاعلة في السرد، أولها: المستأجر، وهو الراوي الذي تخرج من الجامعة بعد أن درس اللغة والأدب الإنجليزي سنوات أربعاً، ليعين في وظيفة مدرس، في عمان، فيبحث كالعادة عن منزل يستأجره، فيعثر، عن طريق السمسار، على ضالته في طابق ثان من بيت اقتطع جزءٌ منه ليكون منجرة، على أن العثور على المنزل لا يحتل أكثر من موقف عابر في الحكاية، لأن المتتاليات السردية تنسينا فكرة البحث عن منزل، واستئجاره، بل الرحيل عنه، ومغادرته.
فقد فوجئ المعلمُ المستأجر بنوال، وهي السيدة التي أطال الراوي في وصفها، والثناء على جمالها الفاتن، وقوامها الرشيق، وشعرها الفاحم المعقوص على هيئة ذيل الفرس، فوقعت من قلبه موقع المعشوقة التي يتمنى أن يقيم معها علاقة غرامية.لا سيما وأنه اكتشف بعد أيام أنها زوجة نادر (النجار) ابن صاحبة المنزل، الذي هو أقرب إلى الحمقى منه إلى العقلاء. بيد أن معرفته بأنها متزوجة – لا عزباء- يمثل عاملا سلبيًا وعائقا يفقد بسببه الأمل بتحقيق ما يتمناه. ومع ذلك لا يمل الاقتراب من نوال بطرائق شتى؛ إحضار بعض الحلويات(كنافة) والنزول في ضيافة الأسرة، والحديث عن الأدب، وعن القصص، وعن الجماليات.. وإعارة الكتب، التي يروي بعضُها قصصًا عن الحب. وتلقي القهوة، والشاي. والتلصُّص عليها وهي تقوم بنشر الغسيل على السطح، حيث الغرفة المأجورة.
بيد أن هذا السياق للحكاية يتعثر أيضًا، إذ يكتشف أن نوال هذه تتمنَّع عليه تمنعا شديدا، فقد أراد مرارًا أن يمس يديها، أو كتفيها، ولكنها كانت تصده، وفي إحدى هاتيك المحاولات قالت له مؤنبة:
-أرجو ألاّ تعود لملامستي،لا تنسَ أنني امرأة متزوجة!
على أن هذا المستأجر– الذي يؤدي في القصة دورين في وقت واحد، هما: دور الراوي المتكلم، ودور البطل، لا يقتنع بهذا الرد، مستخفًا بالزوج، الذي هو ابنُ صاحبة البيت، ويؤكد لها أنها لا ينبغي أن تخلص لزوج كهذا،وأنها ربما كانت قد اضطرت اضطراراً للزواج به، فهو ليس كفؤًا لها، ومن حقها أن تقترن بآخر، يقدرها حق قدرها، ويراعي ما هي عليه من جمال باهر، وحسن فاتن، وهو بهذا الكلام المعسول يظن أنه يستطيع أن يظفر بها، ولقد نجح في جعلها تميل إليه بعض الميل، لا كلّه. إلا أنها – مع ذلك- تتأبّى عليه، وتتمنَّعُ، أكثرَ فأكثر. ويدرك أن إخلاصها لذلك الزوج غير الكفء أكبرُ، وأقوى، من أن يستطيع اختراقه بعلاقة عابرة، لا غاية لها إلا التسلية، والمتعة. لذا أعجب بما انتهت إليه من تصميم:
-خصَصْتُ زوجي بهذا الجسد الذي ليس لدي ما أمنحه سواه.(ص32)
بعد ذلك يقرِّر الراوي، المستأجر – وفي ذلك تحوّلٌ جديدٌ في مجريات القصة- الرحيل من المنزل لآخر على الرغم من أنه لم يقم فيه إلا شهْرا واحدًا. وها هنا تترتب على هذا التحول وقائع جديدة، فمع أن صاحبة البيت لا تجد في ذلك بأسًا، إلا أن نوال ألحت عليه إلحاحا شديدا بعدم الرحيل، والبقاء، مؤكدة أنها لا تتخيل كيف يمكن أن تمر الأيام دون أن تراه. بهذا يتحقق من أنها تحبه حبًا شديدًا. بيد أن هذا الحب – في الواقع- لا يتعدى الكلام اللطيف الحلو، والمجاملات، وهو يريد منها ما هو أكثر من المجاملات، والحديث العابر الحلو. فقد عاد من العمل ذات يوم ليجدها في غرفته، وقد خلعت عنها بعض الملابس، وفوجئت به يقتحم عليها الغرفة، فأخذت تغطي عرْيَها وهي تدعوه للخروج، والانتظار، إلى أن ترتدي ثيابها، وعندما استفزَّ بسبب هذا الطلب، وغضبَ منْها غضبًا شديدًا، جأرَ صائحًا:
-لن أخرج، هذه غرفتي.
عند ذلك دفعته دفعًا، وأسرعت بالخروج.
وبسبب هذا الموقف المتشنج منها اتخذ قراره ثانية بالرحيل من المنزل، على الرغم من أن الشهر الثاني الذي يقيم فيه لم ينته، وهذا القرارُ، الذي أخفاه عن الجميع، أشاع الاضطراب، والقلق، وزاد الطين بلةً تغيُّبه عن الأسرة تغيبًا حدا بصاحبة المنزل إلى إرسال ابنها (نادر) للاستفسار عن الرجل، وهل هو مريض مثلا، أم أن سببًا آخر يحول دون زيارته المعتادة لهم. وقد وجد المستأجر في قدوم نادر فرصته للانتقام من نوال. وهنا تتحوَّل القصة لاتجاهٍ آخر. فالانتقام من نوال يتطلب التقرب من نادر بتقديم المزيد من الحلويات، والسجائر، والحديث عن طباع النساء، وعن استجابة بعضهن للزوج في الفراش، وتمنُّع بعضهن، وضرورة اللجوء إلى العنف مع تلك الزوجة التي تأبى الاستجابة للزوج، وإلا فإن رجولة الزوج تغدو موْضع شكّ. لقد أفضى نادر للمستأجر ببعض الخصوصيات عن نوال، فهي، في بعض الأحيان، لا تستجيب لرغباته(الشَهَويَّة) بذريعة أنها مُتعبة، أوْ لا مزاج لديْها لممارسة الحب.
في هذه الكلمات يعثر المستأجرُ على ضالَّتهِ المنشودة، وغايته المفقودة، فأخذ يقنع (نادراً) أنه هو الذي يتعبُ لا هي، وأن عليه أن يقوم بضربها إذا عادتْ لمثل هذا التمنُّع، فإنه إذا لم يقم بضربها، تأكد لديها أنه ليس رجلا، فتمادت في عدم الاستجابة لمغازلاته. حدث ذلك مباشرة، ففي اليوم التالي، وجدها المدرس تبكي، وعند استفساره عن سبب بكائها، سمع ما يطمئنه على نجاح المكيدة، فهبَّ على الفور، صائحًا:
-يضربُكِ هذا الحيوان؟ والله لألقّنُه درسًا.
في حقيقة الأمر لم يلقِّن المستأجرُ نادراً الدرس الذي وعدها به، وعوضًا عن ذلك عاد إلى قراره السابق بالرحيل، ومغادرة الحيّ خشية أن يتورط في ما لا تحمد عقباه مع نادر، ونوال. ويتكرر رجاء نوال له ألا يرحل، وتقول له « ألم نتفق على ذلك؟ « ولكنه مع هذا يصرّ على الرحيل، فتصدر عنها عبارة مًسْتفزة « افعل ما تشاء « أي: الرحيل أو البقاء. وهذا يغضبه غضبًا شديدًا، إذ معنى ذلك أنَّ رحيله وبقاءَه سيان. فيقول معلقا:
– ربما يحلُّ محلي جارٌ جديدٌ يستطيعُ فهْمكِ أفضلَ مني.
فتنظر إليه بازدراء قائلة
-أنتَ شخصٌ لا تسْتحي على نفسك.
وهنا تتحول القصة مرة أخرى في اتجاهٍ آخر، لكنه مشابه للاتجاه السابق، في أداء قد يذكرنا بالتواتر الذي يجري الكلام عليه في السرْد الروائي:» أنا لا أستحي إذن! والله لألحقنَّ بها ألما شديدًا. ألما يفوق كلَّ الآلام التي عرفتْ. ألما يضاهي ألمي، وعذابي « (ص42).
وتتكرر زيارة نادر، ويتكرر تقديم الحلوى له، والسجائر، ويتكرر التخطيط لمكيدة جديدة، وتصل إلى مسامعه في الليلة التالية جلبة قادمة من غرفة الزوجين: ضربٌ، وارتطامٌ، وصراخٌ، واستغاثةٌ، والأم العجوز تهرعُ لمعرفة جلية الأمر، والمستأجر يدنو منها هو الآخر، وإذْ بالعقاب البدني الذي أراده نادر لنوال يتحول إلى مشكلة، فنوال لم يفتها الاستنتاج بأن كل ما يفعله نادر بها هو من تدبير المستأجر الذي تميل إليه ميلا شديدًا، دون أن يدفع بها هذا الميل للانزلاق في الخطيئة، وعندما تواجهه بالحقيقة، يتنصَّل منها، مدعيًا أنه كان يحاول إنقاذها، لا الاطمئنانَ على خطَّته:
-تنقذني، أم تريد الاطمئنان على نجاح خطتك؟ إنني أجزم .. ما الذي فعلتُه لكَ لتقتصَّ مني؟ أليس لك قلب؟ ألا تعرف الرحمة؟
ويجيبُ معلقا:
– انظروا من التي تتكلم عن القلب.ألم تدركي كم سببتِ لي من ألم؟ أرجوك اخرجي.. واتركيني. اعترف بأنني حرضتُ نادرًا . أردت أن أظهر لك ألا جدوى من الاخلإص له . لأنني أحبُّك. (ص45)
وأخيرا يفترق كل من نوال والمدرس المستأجر، وقد نوى هو الرحيل، وأثنت بدورها على قراره» ذلك أفضل لكلينا «.
في منتصف الطريق
تُلاحظُ على هذه القصة المحْكَمَة ملاحظاتٌ تؤكّدُ رسوخ قدميْ مدانات في صنعة القصة القصيرة، فهو يتَّخذ الراوي بطلا لحكاية قصته، وهذا يجعل منها (مونولوجًا) واحدا من البداية حتى الخاتمة. ومثل هذا السارد يختصر المسافة بين الوقائع التي يرويها والقارئ. فكأن القارئ، والسارد، يلتقيان في منتصف الطريق، هذا يسمعُ، وذاك يروي، وبذلك تكتسب روايته للْمُتخيَّل المحكي مصداقية أكبر. علاوة على أن هذه الطريقة تفْصحُ عنْ أنَّ الزمن الذي يفصل بين وقوع الحوادث وزمن السرد، أيْ: الملفوظ، يكاد يكون معدومًا. فالسارد يروي ما يحدث في الوقت الذي يحدث فيه، وبهذا يُضفي على المادة المروية مصداقية لا نجدها في غير هذا التكنيك السردي. فأن تروي الحدث، وهو قيد الحدوث، أكثر إقناعًا من روايتك له بعد زمنٍ، طالَ أم قصُر.
فضلا عن هذا كله، يُضفي اختيارُ الكاتب لهذا السارد المستأجر على القصة لونا من السرد الاعترافي، ففيه يبوح البطل بما عاناه، ومرَّ به من تقلبات العشق، والعزوف عن العشق، وبين الثقة بتحقيق الهدف، والإحساس بالإحباط، والقنوط، من ذلك، لأنه كلما اقترب من (نوال)ازداد عنها بعدًا. وهذا التوتُّر، والصراع الداخلي، نستطيع لمحه في غير موقف من مواقف البطل؛ وهو يتحدث لنفسه، تارة، وإلى نوال تارة أخرى. وبطبيعة الحال يزيدنا هذا الأسلوب إحساسا بحضور البطل (المستأجر) فهو الذي يتكلم، وينقل إلينا نقلا غير مباشر بعض ما تقوله الشخوص، من صاحبة البيت، إلى السمسار، فإلى نوال، ونادر، وحتى الأب الذي يعاني من الشلل، والزبون الذي قابله في منزل الجيران. وبعبارة قصيرة، وموجزة، ينجحُ الكاتب عدي مدانات في إضفاء التبئير الداخلي على شخصية المستأجر، وقد ساعده في ذلك العنوان (المستأجر) فهو عنوان يلقي ضوءًا على هذه الشخصية التي تبحثُ عن الحب. ووقعت تحت تأثير نوال بما لديها من تكوينٍ متناسق،يستثيره، ومن تعاملٍ لطيف يغريه بالتمادي، وبالغواية، التي تعِدُ بالكثير، غير أن وعودها تظل سرابًا في سراب.
الوظائف:
ويقوم بناءُ القصة- ها هنا- على مجموعة من الوظائف بتعبير بروب Broop. فالتعرف الذي نجده في الاستهلال هو الذي لفت انتباه الراوي – بطل القصة لنوال، فهو بمنزلة الشرارة التي تضرم النار في بيدر العاشق، لتواصل ضرامها حتى آخر الحكاية. والتعرف أيضا باكتشافه أنها متزوجة لا عزباء، وأنها ليست شقيقة نادر(النجار) مثلما ظنّ. ويسفر هذا الاكتشاف عن انخفاضٍ ملموس في منسوب المشاعر المفعمة بالآمال الكبيرة التي غرق فيها المدرّس. ومن تلك الوظائف التحول، وقد ترتب على هاتيك التحولات العديدة التي تكررت في لقاءات كل منهما بالآخر، التقاربُ تارةً، والتباعدُ، في نتائج عكسية لذاك التقارب، مما يغني الحكاية بمزيد من التوقعات التي تنتهي بضروب من الانكسار عندما تُطمْئنُ نوال المستأجر أنَّ الافتراق أفضل لهما الاثنين.
علاوة على هذه الوظائف، لجأ الكاتبُ- عن طريق الراوي – للدسائس، والمكائد، وذلك يحتاج لخطط، ولمنفذ، وفي هذا المقام قدم لنا (نادرا) بصفته العامل المساعد الذي ينفذ ما يطلبه البطل دون تفكير بالعواقب، مما يضيف لحكاية المستأجر مِسْحة هزلية تتفق مع الغاية الأساسية لفن القصّ، وهي التسليةُ، والإمتاعُ، أولا، ثم بعد ذلك تقديم ما يمكن تقديمه من رسائل أخلاقية، أو سياسية، أو اجتماعية. فقد انطلقت هذه القصة من فكرة يجدها المؤلف عن طريق شبكة من المواقف في القصة، فكرةً خاطئة، وهي الاعتقاد بأن المرأة(نوال) التي ُيُفرضُ عليها الزواج من رجل ليس كفؤا لها (نادر) يجوز لها أن ترتكب الخيانة الزوجية مع أي عابر سبيل، ولو كان مُسْتأجراً، وهي مطمئنة البال، مرتاحة الضمير. وقد ظن السارد أن بإمكانه أن يكون عابرَ السبيل هذا، لأن (نوال) ذات الجمال الباهر تعاني من زواجٍ كهذا، لكن المرأة على الرغم من سذاجتها، التي تتراءى للسارد، لقَّنتْه درسًا في الأخلاق، وهو المعلمُ المربّي، إذ أصرت إصرارا شديدا على ضرورة احترامها للعَقْد المبرم مع الزوج الذي قبلت به، ووافقت عليه، بطريقة أو بأخرى. وقد وجد المستأجرُ، على الرغم من دوافعه الإيروتيكية الملتهبة، أنَّ هذا هو الصحيح. ولذا قبل بالهزيمة- إذا ساغ التعبير- وقرَّر ترك المنزل، والجيران، ونوال، والبحث لنفسه عن منزل آخر يجد فيه ما يأمله، ويرجوه، وفي هذا تتحقق وظيفة جديدةٌ من وظائف السرد.
وتبعًا لما سبق، يجد الدارسُ، والقارئُ، كلاهما في (المستأجر) حبْكةً يتخللها الكثير من الحوافز المتكررة، والوظائف، والقفزات الزمنية التي لا تخلّ بعنصر التركيز، وهو أحد شروط القصة القصيرة، وهي حبْكة هابطة، بل شديدة الهبوط، تؤدي إلى إحباط الأهداف، وإلى الإخفاق الذريع، في تبليغ الرسالة من المرسل (المستأجر) إلى المرسل إليه (نوال) فكانتْ النتيجةُ هي الافتراق، في شيءٍ من التوافق، والاتفاق.
سردٌ في غوره وصف
والشيء الآخر الذي ينبغي ألاّ تفوتنا الإشارة إليه، والتنبيه عليه، مزج الكاتب- عدي مدانات- بين السرد، أي: تتبع ما يجري من وقائع بلسان الراوي على وفق التسلسل الزمني، والوصف، والحوار، اللذين يتخللانه من حين لآخر. فهذا جزء يسير من القصة يجمع فيه بين السرد والوصف والحوار:
« مررتُ بمحل الحلوى، واشتريت كنافة، حملت اللفافة، واتجهت إلى المنزل. كانت البوابة مفتوحة حينما وصلت، ونافذة غرفة الجلوس مضاءة، لم يكن من أحد غيرها في الغرفة، راقبتها تجلس قبالة التلفاز، وقد أسبلت يديها وأراحتهما على حضنها.. قرعت الباب قرعا خفيفا، وانتظرت. نهضت، وأقبلت إلي.
-مساء الخير جارتنا
-مساء الخير
-هذه الكنافة بمناسبة جيرتكم
تبسمت قليلا وتضج وجهها
-هذا لطف منك، إنما ليس ضروريا أن…
لم تنه جملتها، وأجابت سؤال العجوز
-إنه جارُنا
ففي السرد نجدُ عباراتٍ وصفية: البوابة مفتوحة. الغرفة مضاءة، خالية إلا من نوال. الجلوس مقابل التلفزيون. اليدان مسبلتان ترتاحان في الحضن. وهذا مشهد وصفي يجمع بين جزء من المكان، وجزء من الإنسان(نوال) في تداخل مع السرد الذي يروي فيه الساردُ ما جرى. والملاحظ أنَّ لغة المؤلف في النوعين لغة بسيطة، وإن كانت تميل إلى التفاصُح، وتجنح للتقعُّر أحْيانًا، بدليل استعماله كلمة تلفاز بدلا من تلفزيون، على أساس التعريب. ولفافة بدلا من (بكيت) أو أي شيء من هذا القبيل. ويستخدم لفافة مرارًا للدلالة على السيجارة. وقبالة بدلا من مقابل. وانصرم بدلا من انقضى، أو مرَّ الشهر الأول. وإذا تأملنا لغة الحوار، وجدناها أيضا لغة متجانسة، لا تعبر عن الفروق بين المتحدثين. فهو يخاطب (نوال) قائلا: بمناسبة جيرتكم، وتردُّ: إنما ليس ضروريًا أن.. وفي غير هذا الموقع نجدُ الحوار يبتعد كثيرا عن عَفَويّة الشخوص، يقول الراوي مجيبًا عن سؤال:» لدى الإنسان غدة في دماغه وظيفتها تذوق الجمال وتحسُّسُه، يهدف علم الجمال إلى اكتشاف التناسق، والتناغم في الخط، واللون، والموسيقى، وتكوينات الطبيعة، وفي ما يبدع الإنسان من رسم، ونحتٍ، وموسيقى، وأدب» (ص16) فمثل هذا الكلام في حوار قصصيٍّ لا يتناسبُ مع الشخصيات التي يتحدث إليها الراوي، فهو يصفُهم في موقع ثانٍ بالبُسطاء المحرومين. وها هنا يخاطبهم خطابه لطلبة جامعيين يتلقّون محاضرة في فلسفة الفن.
أما تعليق الراوي على بعض المسلسلات التي تتابعُها نوال، وما فيها من «ضحالة، ومخيَّلة مريضة، وأنهم- أي مُعدّوها- لا يعرفون شيئا عن الواقع» (ص18) فحوارٌ يبدو عليه التصنُّع في مثل هذا الموقف، والخروجُ على عَفَويّة السياق، وحديث الراوي لنوال عن مؤلف ليالي بطرس بيرغ، وإحدى روايات أنطون تشيخوف، حديثٌ لا ينْسجمُ مع مستوى المتحاوريْن. (ص27).
خلاصة
وأيا ما يكُنِ الأمر، فإن القصة التي نحن بصدد الحديث عنْها، بصفتها نموذجًا يمثل طريقة الراحل في الكتابة، قصةٌ تسترعي انتباهَ القارئ بما فيها من طول (ص5- 45) ولكنَّها، مع ذلك، تستوفي شروط القصّة القصيرة، وفي مقدمة ذلك التركيز، الذي يشفُّ عن انطباعٍ واحدٍ يخلُصُ إليه القارئ من خلال الحبْكة المتْقَنَة، ومن تتبُّعه للمواقف المتباعدة، لكلٍّ من المسْتأجر، والسيدة (نوال) ولا تخلُّ بهذا التركيز الانتقالاتُ الزمنيَّة، في مثل قوْله: « انصرمَ الشهْرُ الأول، ودخلتُ شهر الإيجار الثاني» (ص33) وقوله « وانقضى الشهر الثاني إلا عشرة أيام « (ص35) فهذه الفجواتُ لا تخلُّ – مثلما قلنا- بمبدأ التركيز على العلاقة المشوبَة بين نوال، والمستأجر الراوي، ولا تخلُّ أيضًا بوَحْدَة الانطباع، وكلاهما من شروط القصّة القصيرة الجيِّدة.
*ناقد وأكاديمي من الأردن/الدستور