أخيراً نطق أحد السياسيين الإيرانيين بكلامٍ عاقل ومنطقي (وأعلم أنّ هذه الأصوات موجود في إيران، لكنّها ليست مرتفعة)؛ إذ صرّح محمود مير موسوي، المسؤول السابق في الخارجية الإيرانية، بأنّ “نجاح العمليات في حلب هو فرحة لليلتين فقط، بعدهما علينا أن نقلق للثلاثين عاماً المقبلة”.
وأضاف موسوي (في تصريحات لصحيفة “الشرق” الإيرانية) بأنّه يرى “الأوضاع سيئة جداً”. وقال: “إنّ مقتل 300 ألف شخص وتشريد ونزوح 12 مليونا في سورية، لا يولّد إلاّ العنف والكراهية”. معلّلاً ذلك بأنّ هناك “10 ملايين عائلة سورية ستعيش الكراهية والبغضاء. وهذا يحتاج لحل على مدى عقدين من الزمن”.
من يتابع الردود والنقاشات والحالة النفسية العربية العامة على مواقع التواصل الاجتماعي، جرّاء المجازر في حلب، سيعرف تماماً أنّنا مقبلون على مرحلة معقدة وصعبة، مشحونة بالطائفية والتعصب والعنف والراديكالية. وحتى في بلد مثل الأردن، لا يوجد فيه انقسام طائفي، فإنّ تحولاً دراماتيكياً كبيراً حدث تجاه إيران وحزب لله (وللآسف الشديد تجاه الشيعة عموماً) نتيجة ما يحدث في سورية، لكن مع مشهد حلب تحديداً!
ما سيزيد الطين بِلّة وصول شخص مثل ترامب إلى البيت الأبيض؛ فهو فاشي بقناعٍ ديمقراطي، مع طاقم لا يؤمن بأيّ دور للولايات المتحدة الأميركية في الدفع نحو حقوق الإنسان والديمقراطية. وقد قرأنا مقالة أحد اليمينيين المعروفين (المؤيدين له)، هو دانيال بايبس (في “بوسطن غلوب”، ونشرت “الغد” ترجمتها أمس)، وهو يتحدث عن خيارات ترامب في الشرق الأوسط، والتي يمكن اختصارها -كما ذكرنا سابقاً- بالعودة إلى المدرسة الواقعية التقليدية، وإلى مفهوم المصالح والأمن، مع تجنب أي تشجيع للديمقراطية قد يؤدي إلى وصول الإسلاميين إلى السلطة.
ومن المعروف أن بايبس من أعداء الإسلاميين، وممن يقولون بأنّه لا يوجد إسلام معتدل ومتطرف. لذلك، هو يرى الصراع في سورية بين أعداء الولايات المتحدة جميعاً؛ إيران وروسيا من جهة، والمعارضة ذات الطابع الإسلامي من جهةٍ أخرى، فلا يرى غير الأكراد حليفاً قوياً للولايات المتحدة هناك. وحتى بالنسبة للأتراك، فإنه معادٍ لأردوغان، وهو بالمناسبة لا يبتعد بذلك عن الرؤية الصلبة الجوهرية لليمين الأميركي المؤيد لترامب.
مع انفجار الصراع الطائفي، وبروز الفاشيات، بألوانها وصورها المتعددة، بين أنظمة طائفية تابعة لإيران، وحركات متطرفة معادية لها، وملايين من المهجرّين واللاجئين، وأزمة إنسانية في المنطقة لم تحدث في أوج عهد الاستعمار؛ ومع إدارة أميركية لا تهتم ولا تعبأ بالديمقراطية وحقوق الإنسان، وليست لديها مشكلة مع الأنظمة الاستبدادية، ومع تجديد التحالف معها، في مثل هذا المناخ الموبوء والكارثي في المنطقة العربية، فإنّ الحلم الديمقراطي الذي يراود شريحة اجتماعية واسعة، أصبح بعيد المنال، على الأقل على المدى المنظور.
ليس ذلك فحسب! بل إنّ الأمن الذي تروّج له الأنظمة العربية بوصفه، عملياً، بديلاً من الديمقراطية، لن يتحقق أيضاً. فما لا يدركه أصحاب هذه النظرية (تجديد السلطوية) هو أنّ الوضع السياسي الراهن في العالم العربي لم يعد قابلاً للاستمرار أو الدوام، ومناهج الحكم والشرعية الحالية أصبحت بالية، وحجم الأزمات والانهيارات أكبر منها. لذلك، فإنّ الطريق البديلة من الديمقراطية لن تكون إلا أزمات وصراعات وانهيارات قائمة ومقبلة.
أعتذر عن هذه الجرعة السوداوية، لكنّها ليست سيريالية ولا فنتازية. فقط انظروا حولكم وفكّروا بما يحدث بمنظور أعمق؛ إنّها لحظة تاريخية جديدة ومرحلة بدأت تتشكّل، لا بد أن نفهمها جيداً.