بهذا العنوان -حلب الضربة القاضية- خرجت صحيفة “الأخبار” البيروتية أمس، احتفالاً باستعادة جيش الأسد، مع المليشيات الطائفية الموالية لإيران، وبدعم جوي روسي مكثّف، السيطرة على 90 % من مدينة حلب، وانهيار ما تبقى من قوات المعارضة هناك، التي احتملت وصمدت مدة طويلة تحت الحصار والجوع والقصف.
كان يمكن أن تكون حلب، كما هي الحال في الموصل، بالفعل “ضربة قاضية”، لو كان سلوك “المنتصرين” حضارياً وإنسانياً، ومغايراً للصورة الكارثية التي رأيناها بعد اقتحام ما تبقى من الأحياء الشرقية. لكن ما حدث -كما كان متوقعاً- هو العكس تماماً؛ إذ بدأت عمليات الانتقام من الجميع، المدنيين والأطفال والنساء، قبل المقاتلين، وتمّ إحراق وقتل العشرات، وتنفيذ عمليات إعدام ميدانية بحق الناس، فقط لأنّهم كانوا في المناطق التي سيطرت عليها “المقاومات” السورية المسلّحة!
ارتكبت المعارضات المسلحة في حلب وباقي المدن والمناطق أخطاء وخطايا لا تغتفر، ودخلت في صدامات مسلحة وعنيفة فيما بينها، في كثير من المناطق. وتكفي نظرة إلى واقعها اليوم كي نفهم تماماً ما حلّ بها؛ الرقة ودير الزور وريف حمص (مع تدمر مؤخراً) يسيطر عليها تنظيم “داعش”، ومحافظة إدلب (باستثناء كفريا والفوعة) تسيطر عليها “جبهة الفتح” (“جبهة النصرة” و”أحرار الشام”)، ومناطق في ريف حلب الشمالي تسيطر عليها قوات “درع الفرات” بقيادة تركيا، ودرعا تخضع لقوات “الجبهة الجنوبية” مع جبهة “الفتح” (وعملياً هذه الجبهة ساكنة محايدة في الصراع منذ قرابة عام، بإيعاز من الغرفة العسكرية المشتركة “الموك”)، والغوطة يتصارع عليها كل من جيش الإسلام وفيلق الرحمن، وخسر من خلاله الطرفان جزءاً كبيراً من المناطق لصالح النظام، وبقاء سيطرتهما باتت مسألة وقت بعد الانتهاء من حلب.
إذاً، الخلافات الداخلية والصراعات والتمزّق هو عنوان المقاومة المسلّحة التي في طريقها إلى الذوبان؛ فلم يتبق إلا فصيلان قويان فاعلان، “داعش” و”جبهة النصرة”، ما يعني أنّ الخيارات المتاحة للناس في سورية أضحت بين فاشيتين؛ الأولى هي فاشية النظام وحلفائه العلمانية المتلبسة بالطائفية، والثانية هي المجموعات الراديكالية الإسلامية السنية. ما يعني، أيضاً، أنّ المشروع العسكري للثورة السورية انتهى، بينما المشروع السياسي الذي كان يمثّل الثورة الحقيقية تراجع وتوارى، مع ضعف الائتلاف السوري في الخارج، ووقوعه في فخّ الارتباط بدول وأنظمة سمّت نفسها بـ”صديقة الشعب السوري”، وكانت هي أشدّ وبالاً عليه من أعدائه، بما فيها إيران وروسيا.
لكن، مرّة أخرى، هل يعني ذلك فعلاً أنّ القصة انتهت، وأنّها الضربة قاضية؟
على النقيض من ذلك، في ظني القصة دخلت في طور أكثر سوءاً وخطورة. والضربة القاضية الحقيقية وُجّهت (مع مجازر حلب والهجوم الروسي- الإيراني العنيف، مع التواطؤ الأميركي) إلى الأصوات المعتدلة والمعارضة الوطنية، وإلى الأمل بحلول سياسة توافقية، ومحاولة الوصول إلى صيغ جديدة لأنظمة سياسية توقف مسلسل الحروب الداخلية!
ما حدث يعزز من خطاب “داعش” و”النصرة”، ويدفع بالناس إلى القناعة بأنّه لا خيار أمامهم سوى تلك التنظيمات التي ترى فيما يحصل صراعاً وجودياً طائفياً عقائدياً، وأنّ الخيار المتاح أمامك؛ إما أن تَقتل أو تُقتل.
سيقول قائل إنّ “داعش” هو الآخر يتعرّض لضعوط شديدة اليوم في الموصل والرقة. وهذا صحيح، وعلى الأغلب سيخسر العام المقبل، في الحدّ الأدنى دولته وعاصمته في الموصل. لكن ذلك لا يعني الضربة القاضية أيضاً. لكنها حرب استنزاف داخلية، وصراع طويل الأمد، واستمرار حروب الوكالة، والانجراف إلى مرحلة جديدة من الصدام الطائفي، ما يعني مزيداً من الدعشنة، فنهاية حلب هي طور جديد في اجتياح الراديكالية للمنطقة!